«الفينيــق» الــذي لــن يعــود
قلما يختلف اثنان على أن أجمل ما في ذاكرتنا الجماعية، نحن اللبنانيين، والعرب بصورة عامة، قد يكون ما غرسته «المدرسة الرحبانية» في نفوسنا، وما أحيته فينا النصوص المسرحية للـ«أخوين رحباني» من آمال كبيرة ومساحات تفاؤل بالآتي، وايمان مطلق بانتصار الحق وقضية الثوار والفقراء في شتى اصقاع العالم، بصياغة فنية درامية لم يسبق لها مثيل، ولم تتكرر ـ حتى الآن أقله ـ ساهم في تكريسها ذلك الصوت الفيروزي الاصفى من النقاء.
أجيال عايشت الاعمال الرحبانية، ومحظوظون الذين كتبت لهم مشاهدتها تقدم على مسارح بيروت والشام والعواصم العربية والعالمية، وأجيال تلت هؤلاء، اتيحت لهم مثل هذه الفرصة ناقصة، مرة صوت وحضور فيروز، ومرة في الغياب الكبير والذي لا يعوض للمبدع عاصي الرحباني، وأن يكن منصور دافع حتى الاستماتة، منذ رحيل عاصي، عن هذه المؤسسة، بتكراره وإصراره على ان كل الاعمال الرحبانية تحمل توقيع وسمة ونفس «الأخوين رحباني» معا، أي منصور وعاصي، وحتى بعد رحيل هذا الأخير، وتحديداً في مسرحية «صيف 840»، كان هذا صحيحا تماما ومسلما به، إذ كانت لمسات عاصي الابداعية حاضرة، وفي المنحى التصاعدي المنطقي لأدائها، وصولا الى التفاعل المدروس بدقة، وكيفية دوران عجلة الأحداث، حتى بلوغ الذروة في المشهد الأخير، مع المعايشة الممتعة لأحداث كل مشهد على حدة. وكذلك ايضا، ولعله الاهم، في الحوار المحبوك بحنكة لا تبارى، وبفلسفة عميقة مصوغة بعبارات بسيطة، لكنها منطوقة بمفردات راقية، ومسوقة بمواقف و«لطشات» و«قفشات» ذكية ميزتها انها مسكوبة في أوانها الصحيح وبالعبارات المناسبة، تثلج قلوب المتلقين و«تفش خلقهم» على خلفية الاسقاط المقصود لأحداث تاريخية او اجتماعية، على الواقع المعاش.
مثل هذه العناصر المكوّنة للمسرح الرحباني، والتي تجسد كل سماته، حضرت جميعها، ولو بصورة مغايرة تماماً، في المسرحية الرحبانية الاخيرة «عودة الفينيق»، والتي حملت تواقيع ثلاثة من «اعمدة» المدرسة الرحبانية، أولهم «المعلم منصور»، والاخران ولداه مروان وأسامة. لكن الحق يقال ان هذا «الثالوث» من الابداع، نصا وتأليفا موسيقيا ورؤية اخراجية، لم يقدم اضافة تذكر لكل السجل الابداعي الحافل «للثنائي» منصور وعاصي، إن لم نقل انه قارب جوهر اعمالهما بتكرار ممجوج، وبصورة كاريكاتورية فالاستنساخ، وربما «الاستمساخ» لأعمال محفورة في الذاكرة الجماعية، بدا سيّد الموقف في «عودة الفينيق» من خلال اكثر من منحى، نوردها بعد الاضاءة على الاضافة الوحيدة الجيدة في هذا العمل، نعني بها «بطلته» المغنية الشابة هبة طوجي، ابنة الـ ٢١ ربيعاً، والتي أطلت كطائر فينيق حقيقي، بصوت مطواع ومتمكن دراسة وموهبة، يعد بآفاق مشرقة في ساح الغناء الفردي كما الجماعي ـ المسرحي، ولو أن ظلما لحق بإطلالتها الاولى والمهمة، من خلال موقع كبير مثل «الرحابنة»، وهو وقوعها في مطب تشبيه المتلقي لها بصوت الفنانة كارول سماحة وحضورها المسرحي، على خلفية أن المؤلف الموسيقي واحد، وله سمته التي لا بد من ان تتكرر، شاء ذلك أم لم يرغبه، في كل عمل يحمل توقيعه، مع الاشادة بقدرتها على تمالك نفسها واستيعاب فكرة أن تكون نجمة عمل مسرحي الى جانب كبار مثل انطوان كرباج وغسان صليبا وتقلا شمعون وبول سليمان.
استعارة التاريخ
الهنات التي شابت «عودة الفينيق» تجعلنا نطرح الاسئلة التالية: حتام يستمر البحث والتنقيب في التاريخ، حديثه وقديمه، سعيا الى الظفر بأحداث يمكن قولبتها لإسقاطها على واقعنا الحالي، بعد «لبننتها» تحديداً؟ ألا نعيش في أيامنا هذه ما لا يحصى من ظروف استثنائية، يمكن ان تشكل مصدر وحي لكتابة نص مسرحي معاصر وقريب من الواقع او يحاكيه عن كثب؟
وإن تكن مثل هذه «اللعبة الكتابية» نجحت في اعمال سابقة، فليس ما يبرر اعتمادها بسطحية في الاسقاط، تضاف إليها ركاكة في الحبكة الدرامية، جعلت من العمل مجرد مشاهد مركبة، لم تنجح الحوارات الضعيفة الفكرة والمضمون والمفردات (والتي تذكّر بـ«الاسكتشات» التي يقدمها التلامذة في حفل نهاية العام الدراسي)، لم تنجح في إنقاذها، او في اقناعنا بأننا امام عمل مسرحي متكامل ومتماسك، بل كل ما في الامر هو سعي منصور الرحباني الى تقديم العذر الفني ـ المسرحي لأسامة الرحباني، كي يطل بالتأليف الموسيقي الذي وضعه.
تنشر بالتزامن مع جريدة «السفير» لبنان
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news