خوسرو زادي: الحرب لا تقتل إلا الفقراء
ينتمي الفنان الإيراني خوسرو حسان زادي الى الجيل الفني والأدبي الذي تفتح وعيه فترة الحرب العراقية ـ الإيرانية، وعايش النتائج المأساوية للحروب التي «لا تقتل غير الفقراء الذين يعيشون في بيوت سرعان ما تنهار، ويختبئون في ملاجئ غير مجهّزة، ويجوعون، ويقتادون الى الجبهات الامامية، في الوقت الذي يلحق الأثرياء بأرصدتهم المصرفية وعقاراتهم البعيدة؛ لأنهم يتعاملون مع أوطانهم بمنظور سياحي».
هذا المنظور الإنساني قد يكون بوابة دخول مناسبة الى عوالم هذا الفنان الذي يعرض نماذج من أعماله في صالة «21» في دبي، وهي جزء من مشروع فني كبير يشتغل عليه زادي منذ سنوات عدة، هدفه الاقتراب من حياة الناس، ومحاولة التقاطع والتداخل مع هذه الشريحة من الناس التي تصنع اسطورتها الخاصة من دون أضواء أو توثيق او أدنى انتباه حتى من الناس الذين يصنعونها. هي اشياء واقعية ملموسة ومدركة مختارة بعناية ودقة وصدقية، اناس بلا أقنعة ومطريات بشرة، اختارهم زادي بانحياز كامل لمقولة أحد الشعراء «القناع غريب مهما بدا شبيها»، ومن هنا فإن شخوص هذا الفنان بلا أقنعة، بل هم رجال يفتلون شواربهم على المقاهي، ويحملون سكاكين على خصورهم، يضرب بعضهم بعضا لأسباب بسيطة.
تنتمي تجارب زادي إلى تلك الاعمال الفنية التي تنبش في تشكلات الذاكرة، وتبحث بقوة عن مفاهيم باتت ملتبسة ومشوشة كالهوية، باعتبارها افقا ثقافيا واجتماعيا، وليس سياسيا بالضرورة، وقد تكون الغاية الاساسية من هذا البحث الوصول الى حوامل مرجعية للمنتج الابداعي البصري، واكتشاف مواد أولية ومستخدمات حية وحقيقية، من خلال التعاطي مع الهوية على أنها ليست واقعا منجزا ومتحققا حتى لو كان عمره آلاف السنين، بل هي نتاج مستمر ومتواصل.
ومن هنا؛ فإن أعمال هذا الفنان تتجاوز مفهوم العمل التشكيلي التقليدي لصالح تقديم مشروع ابداعي بحثي متكامل العناصر يقوم على مشهديات بصرية، وتوثيقات، والتقاطات يومية، مشبعة بالفوتوغرافية، لكنها تتجاوزها الى كونها خليطا فنيا مبتكرا، يستفيد من الصورة والتجسيد واللون، ونباتات الزينة البلاستيكية، الإضاءة، المعلومة، وغيرها من المستخدمات التزينية التي تحيلنا الى ذلك المزاج الفني الشعبي المعروف لمناطق انجزت مفاهيمها الخاصة عن الجمال والبطولة وغيرهما من القيم الاجتماعية والاقتصادية.
تستمد أعمال زادي قوتها من طاقة تعبيرية ذات نكهة خاصة، من حيث ولائها المفرط والمباشر للحياة، ومن خلال طابعها الجمالي المقترن بالتوثيق، ليصير الرهان على الجمال الفطري المفاجئ غير المقترن بطابع تنظيري، بقدر ما هو مقترن بالذاكرة الفردية والمشاهدات اليومية، والصورة بمعناها الاحتفالي يوم كانت هذه الصورة حدثا مدهشا وساحرا، ويوم كان الذهاب الى استديو التصوير رحلة حقيقية، لاسيما لسكان الارياف.
يراهن زادي، الذي عمل مراسلاً لـ«بي بي سي» وممثلا، على شحن تجاربه بقوة عاطفية فطرية، وتعبيرات سينوغرافية تقترب بشكل من الاشكال من الفضاءات المسرحية، من حيث تجسيد الشخوص التي يدعمها بمفردات ومستخدمات يومية حقيقية، من دون تجاهل الابعاد الدرامية لهذه الشخوص المجسدة، بحيث يصير العمل وحدة متكاملة العناصر ومستقلة الابعاد من الناحية الفنية والموضوعية، فلكل عمل سياقه التاريخي المعلوماتي، بوصفة وحدة بشرية وحياتية، او اقتناصا تشخيصيا مختلطا بالكثير من المواد الانشائية، المضاءة وفق رؤى احتفالية تزينية.
ولعل زادي، الذي وصف نفسه بأنه ابن «قاع المدينة»، حدّد منذ تجاربه الأولى مطلع التسعينات حيزه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وراح ينجز أعمالا تؤكد هذا الانتماء من حيث تدعيم العمل بمرجعيات تاريخية ومثيولوجية وعقائدية، بحيث يصير فضاؤه الاجتماعي مساحة خصبة للتأويل، والحوار مع أكبر شريحة ممكنة، خصوصا رجالات المقاهي، والمطربين الشعبيين، وبعض الابطال الرياضيين المغمورين، وكأنه ينتصر لهم، ويعيد تكوين ذاكرة جديدة لحضورهم الذي كان عابرا. الحنين الى الماضي في اعمال زادي لا يحمل طابعا مرضيا يوتوبيا، بل هو محاولة لإعادة قراءة مرحلة زمنية لم توثق كما ينبغي ولم ينظر إليها في ظل التغيرات التي شهدتها المنطقة، ولعل هذا الحنين هو جزء من محاولات رفض حالة الاغتراب في هذه القرية العالمية التي باتت ثقافتها تفرض من بضع شركات عملاقة تحكم العالم.
وبصورة عامة، فإن أعمال هذا الفنان حافلة بمكامن الدهشة والجماليات غير التقليدية، وتتكئ على عشرات الحكايا الشعبية، والوجدانيات، وكأنها رثائية بصرية لعالم مغمور من البشر والاحداث، اختار لها زادي فضاءً تعبيرا خاصا يتجاوز الرسم والتشكيل الى بنائية بصرية قوامها التفصيل والتسجيل وطرح مفاهيم مبتكرة لجماليات العمل الفني.