حـلاوة صور فلسطيـن ومرارة العـودة إلى إثيــوبيا
يمكن الإمساك بالزمن وتثبيته بالصورة سواء كانت متحركة أو ثابتة، والإطباق على لحظات منفلتة، وعليه يأتي فيلم الفلسطيني عبدالسلام شحادة «إلى أبي» المشارك في مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية متسلحاً بكل ما يجعله وثيقة جمالية للحياة الفلسطينية بالأبيض والأسود وبالألوان، بصور فوتوغرافية أو متحركة، كما لو أنه يفتح صندوقاً هائلاً من الحنين، صندوقاً غير متناهٍ من الصور الفوتوغرافية التي أخرجها شحادة من استديو الحاج سلامة، لتمضي جميعاً أمامنا برفقة سرد شعري دافئ، صور وصور تتوالى وهي تنقلنا من لحظة إلى أخرى، من وجه إلى آخر، وجوه نجهلها لكنها في الصورة تتكلم، تنطق، وقد قال لها الحاج سلامة بعد نجاحه بالتقاطها «مبروك».
على أغنية سيد مكاوي «يا حلاوة الدنيا يا حلاوة» تتوالى الصور في فيلم «إلى أبي» يوم كانت «كبيرة وواسعة مليئة بالبحر والشجر» يوم كانت الصورة تتنفس المكان، ويوم كان الانتظار للصورة كما لو أنها ستسرق روح من يقف أمام الكاميرا، المصور ابراهيم حرب يقرأ وصيته ومن ثم «مبروك» أيضاً. شارع البحر كان مليئاً بالصور لعبدالناصر وعبدالحليم، كان للصور ظل وأبعاد، وكان الخوف من الكاميرا، والحرص على أن تظهر العيون خضراء أو زرقاء على الرغم من أنها بالأبيض والأسود، كان الحب ما يحكم الصور، كانت الحياة ما تضيئها.
التغير الدرامي يأتي مع حرب 1967 والاحتلال الاسرائيلي والتهجير، مع ما صار إليه الحاج السلامة وهو مقعد في بيته. مع 67 أصبحت الصور مخيفة، صار اتلافها شيئاً من النجاة، صور عبدالناصر يجب إحراقها، لا بل إن الصور صارت صور هويات يصدرها الاحتلال الاسرائيلي لسكان رفح، وهنا يمسي فيلم شحادة ملوناً، والصور مآساوية، كما أنها صارت تدل على الفلسطينين كي يعتقلهم الاحتلال أو أنها صور وكالة الغوث أو ما ينشر في الصحف والمجلات لرصد المأساة.
يواصل الفيلم سرده، يتعقب الصور، وكيف للكاميرا أن تقوي المخرج نفسه ليحتمل هول ما ألم به ومن حوله في الانتفاضة الأولى، وما طال كل شيء من تدمير، وهو يتعقب ما آلت إليه الصور التي صارت للشهداء، لشباب في مقتبل العمر لا يجدون إلا الموت سبيلاً لمواصلة الحياة، بحيث صار المصور يخاف من الصور، لا يضيف أي شيء عليها، إنها مدعاة للبكاء «ياه كم بكتنا الصور»، إنها صور ملونة قبيحة تضيء الموت بدل الحياة، صور أسرى إن لم يكونوا شهداء، ولم يعد أحد يعرف الفلسطيني، صارت الصور كثيرة لكنها غير مفهومة والملامح تائهة، إنها لمن غيبهم الموت. يستعيد شحادة في ربع الفيلم الأخير قصته مع علاء أثناء تصويره فيلم «الأيدي الصغيرة»، علاء الذي يطمح لأن يكون بحاراً، لكنه يمضي مع المقاومة والمخرج يقول له «بكير.. تزوج وعزمني لصور عرسك»، لكن كما تقول الصور ويروي شحادة، هناك من صوّر علاء قبله، لقد استشهد، وهناك صور له قبل عمليته وأخرى وهو محمول على الأكتاف، وصور أخرى لبيت عائلته الذي هدمته الجرافات الاسرائيلية.
فيلم «إلى أبي» سيرة وطن بالصور، احتفاء بالحياة وهي تلوّن بالعذاب، وسرد خاص يعطي للصور أبعادها ووثائقيتها، ويجعلها بتميز مادة درامية بمجرد أن تتغيير ألوانها، أو تتحول إلى صور هوية أو اعتقال أو موت. إنه قصيدة بصرية مصنوعة بشغف وألم.
من فلسطين وعبدالسلام شحادة نمضي إلى فيلم «تيزا» للمخرج الإثيوبي هايلي جيريما المشارك في مسابقة المهر للإبداع الآسيوي والإفريقي عن فئة الأفلام الروائية الطويلة، والذي يحمل أيضاً توثيقاً خاصاً لوطنه إثيوبيا وكل ما له أن يشكل سرداً روائياً موازياً لمرحلة تاريخية طويلة للحياة السياسية والاجتماعية لهذا البلد عبر قصة الطبيب أنيبربر (آرون آريفي) وعلى شيء مما له أن ينتمي لما بعد الكولونيالية، والحكومات الوطنية التي تولت الحكم في بلدان العالم الثالث وما استقدمته من كوارث حولتها في النهاية إلى ما يشبه استبدالاً للشرطي الأجنبي بآخر أصلي أو وطني أشد قسوة ووحشية في القمع والاستحواذ على البلد بأرضها وبشرها ومقدراتها.
فيلم «تيزا» مأخوذ تماماً بهذا الهم، وتأتي قصة أنيبربر وفقدانه الذاكرة وتتبع استعادته لها، على ما يمكن وصفه باستعادة ذاكرة وطن، مضافاً إلى ذلك العنصرية، ولعنة أن تكون زنجياً في هذا العالم.
فمع وصول أنيبربر إلى قريته النائية، تتوالى كوابيسه، التي سيكون تفسيرها من قبل أمه وأهل القرية بأنه مسكون بقوى شريرة، لكن وكما سيتكشف على مدار سرد الفيلم، فإنه يرزح تحت عبء ذاكرة مليئة بالدم والذكريات المؤلمة، وحياته أشبه بتنقل حاد من مأساة إلى أخرى، ولعل ساقه الاصطناعية هي آخر ما طاله، والتي يكون في البداية لا يتذكر أين فقدها.
يمشي الفيلم في خطين دراميين الأول في قرية أنيبربر والتشويش الذي يسكن ذاكرته واختلاط المشاهد أمامه بين ما يراه وما يتذكره. الحاضر مسكون بالعنف، كل شاب يقع في قبضة الحكومة يؤخذ إلى الجبهة حيث الحرب، الفقر على أشده، والطبيعة متواطئة مع بؤس الحياة.
الخط الثاني استعادي، إنه أنيبربر وهو يستعيد ذاكرته في ألمانيا، حيث درس الطب، المرأة التي أحبها وهجرته آخذة معها ابنه، وإلى جانبها أصدقاءه اليساريين الحالمين بغد فضل لبلدهم إثيوبيا والتخلص من ديكتاتورية الامبراطور هيلا سيلاسي، الأمر الذي يتحقق مع انقلاب مانغستو هيلاماريام الشيوعي، وعليه يعود أنيبربر إلى بلده ليضع خبراته في خدمته، لكن كل شيء سيقف ضده، وإن من وقعت البلاد في قبضتهم أشد وحشية من الامبراطور، لا بل إن صديقه تيسفاي سيقطع بالسواطير لا لشيء إلا لأنه متعال على الشعب، وغير ذلك مما يضعه دائماً على حافة الموت، إلى أن يرسل إلى ألمانيا من قبل الحكومة التي ترغب به موالياً لها بالمطلق، لا لشيء إلا لأنه الوحيد المتبقي، وهناك يتعرض إلى الضرب المبرح على أيدي العنصريين ويرمى به من الطابق الثاني، ويقفد ساقه بعد نجاته من الموت بأعجوبة. تلك خطوط قصة الفيلم العامة، وما تبقى كثير ومزدحم بكل ما له أن يشكل بانوراما متكاملة عن الحياة في إثيوبيا، وهول الصدمة في الداخل والخارج، واصطدام اليسار بالحكم اليساري، وغير ذلك مما يتأتى من صعوبة إخراج فيلم في افريقيا كما يقول المخرج هايلي جيريما بحيث تكون الفرصة متاحة كل 10 سنوات أو أكثر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news