الحرية تجاور الجنون في «لا تنسي الكمّون» و«ملف خاص»

إن كانت المخرجة السورية هالة العبدالله في «أنا التي أحمل الزهور إلى قبري» الحائز الجائزة البرونزية عن فئة الفيلم الوثائقي في الدورة الأولى من مسابقة المهر، قد نوعت في مقاربتها المنفى وحيوات النساء اللواتي تعرضن للاعتقال السياسي في سورية، وقصة عودة الرسام يوسف عبدلكي إلى وطنه سورية بعد حياته منفياً لزمن طويل، عبر تجميع كل أفلامها أو مسوّداتها في فيلم، فإنها وفي جديدها «هيه.. لا تنسي الكمون» المشارك في مسابقة المهر الوثائقية، تتخذ من المسرح معبراً نحو المرأة وجسدها وتحررها منه، من خلال الممثلة اللبنانية دارينا الجندي، ولنكون بصدد مسرحية تعيش في أعماق فيلم لا يكتفي بها، بل يمضي إلى استعادة واحد من أبرز الكتاب السوريين المغيّبين ألا وهو جميل حتمل، وقد فارق هذه الحياة ولم يتجاوز الثامنة والثلاثين، وتحديداً في نوفمبر 1992 محاصراً بمنفاه، وتوقه إلى العودة إلى سورية التي عاد إليها في تابوت، وعلى مسار مواز تمضي أيضاً هالة العبدالله بتعقب حياة الكاتبة الأميركية سارة ماكين التي انتحرت.

«أنا التي أحمل الزهور إلى قبري» عنوان مأخوذ من قصيدة للشاعرة السورية دعد حداد التي غيّبها الموت باكراً، و«هيه.. لا تنسي الكمون» عبارة لجميل حتمل وكلاهما غيّبه الموت باكرا. يبدأ الفيلم مع حتمل ونحن نرى ما يرى وهو ممدد على سرير المستشفى، زاوية الرؤية لا يعيقها إلا كيس السيروم وأمامنا نساؤه، وعلى يسار الكادر امرأة جالسة تدير ظهرها للكاميرا تغني، بينما استعادة حتمل لهن في شريط ذاكرة يترافق بقراءة نصوص له، مشهد مبني بحب وانخطاف، نحو كل ما لحتمل أن يكون افتراضاً لما تذكره قبل أن يفارق الحياة، نساء يدرن أمامه وكل واحدة بدورها تقترب من سريره على طريقتها وخصوصيتها وهو دائماً يردد «لا أحب الأسود»، لكنهن في النهاية سيتشحن به، وما تبدأ دارينا الجندي قراءته في بداية الفيلم يتحقق «أعدني يالله إلى وطني ولو جثة»، وها قد عاد حتمل إلى سورية جثة، وها هي هالة العبدالله تزور قبره في دمشق.

صمّام قلب حتمل تحول إلى خاتم، وصار في الفيلم على شيء من اللازمة المتكررة، والذي ما إن تقول راوية الفيلم العبدالله «لن تمانع يا جميل أن تضع دارينا الخاتم في إصبعها» حتى تتسلم دارينا سياق الفيلم وتواصل سردها لما له أن يكون قصة امرأة مع الجسد والحرية، واصطدام رغباتها بالذكورة، بدعاء أمها ألا تصير عاهرة، ومن ثم مستشفى المجانين الذي تودع به، المصير الذي فصّل خصوصاً لمن تراودها نفسها على الاحتفاء بجسدها وحرّيتها، والكثير مما يؤسّس في النهاية لشعرية، ومرارة المنفى والحرية أو بكلمات العبدالله «الجنون في الحرية والموت في الحرية».

فيلم «هيه.. لا تنسي الكمون» مسكون بهواجس تمضي والألم يداً بيد، إنها مصائر اكتملت افتراضاً بموتها، لكنها ما زالت تطالب بحريتها، بحرية الجميع، ولعل انتقال الخاتم إلى دارينا على شيء هذا الصراع المرير واستمراريته.. «لينظفوا أنفسهم وضعوا كل أوساخهم عليّ» تقول الجندي، إنها الحرية المجاورة للجنون في مجتمعاتنا، والتي تجدها العبدالله أيضاً في «مارستان» يعود للقرن الـ12 في حلب حين كان الجنون يعالج بالموسيقى والضوء.

سواد كثير سيعتري من يشاهد فيلم هالة العبدالله، حزن عارم على مصائر من يتوق إلى المغاير والمتمرد، إنه نوع من الغوص في أعماق الهوامش والمنافي والسجون، الثالوث الذي يترصّد كل إبداع حرّ في عالمنا العربي.

ومن واقعية فيلم «هيه .. لا تنسي الكمون» الشعرية، نمضي إلى واقعية من نوع آخر، لها أن تكون توثيقية بحتة حملها فيلم المصري سعد هنداوي «ملف خاص» المشارك في مسابقة المهر الوثائقية أيضاً، بحيث جاء رصداً كاملاً لكل ما يعتري الحياة المصرية خصوصاً، والعربية عموماً من ازدواجية في مقاربته المرأة ومفهوم العذرية والشرف، وغير ذلك مما يسعى الفيلم إلى الإحاطة به من كل جانب، في توثيق يفضح هول ما يتسيّد العقلية الشرقية تجاه المرأة.

يمضي فيلم «ملف خاص» مباشرة نحو موضوعه، يطرق كل الأبواب ولا يستثني أحداً من البشر العاديين، والأخصائيين والمثقفين، ولنكون في النهاية أمام بانوراما كاملة لبنية عقلية ذكورية تستحوذ على الجميع، بمن في ذلك النساء أنفسهن، وجاهزية فطرية لإدانة المرأة لكونها امرأة فقط، فهي لا تمثل أي شيء سوى أنها ولدت «بختم ربها» أي «غشاء البكارة» وكل ما عليها هو صونه لحين زواجها «فيغلق باب الشر».

الفيلم مملوء بالقصص والتحاليل النفسية والاجتماعية لظاهرة العذرية ومفاهيم الشرف وجرائمه التي تقع لمجرد الشك، وحالة الهلع التي يقارب المجتمع المصري بها الجنس بوصفه موضوعاً محرماً الكلام فيه مع النساء، والمطلوب «إخفاء المعلومات عنهن لتولد شخصية مقموعة»، وصولاً إلى الاغتصاب وكيف يحمّل المجتمع دائماً المرأة المسؤولية واعتبار نوع الثياب التي ترتديها مثلاً سبباً لتعرضها له، في نفي لحقيقة أن «الاغتصاب فعل عنف وليس جنس»، وأنه لا يستثني المحجّبات والمنقّبات، كما يعرّج الفيلم على ختان النساء، وعبثيته التي تتجاهل حقيقة أن الشهوة موجودة في العقل.

كثير وكثير ما حمله فيلم «ملف خاص»، شباب لا مانع لديهم بإقامة علاقة غير شرعية مع شابات، لكنهم لن يتزوجوا ممن تستسلم لهم وتهبهم كل شيء في سبيل الحب، ومن ثم يحضر الحديث عن الكذب، عن استحالة قبول الرجل لامرأة كانت على علاقة برجل آخر، بينما الأمر مقبول بطريقة معاكسة، وبمجرد اعتراف المرأة بذلك فإن مصيرها القتل.

فيلم هنداوي جريء ومهم بموضوعه الذي له أن يسلط الضوء على «فوبيا الجنس» في مصر، وبالتأكيد في عالمنا العربي، وله أن يكون وثيقة أو ملفاً خاصاً جداً يطال الجميع.
تويتر