<p align=right>الفيلم حاز أوسكار العام الماضي. أرشيفية</p>

«حياة الآخرين».. المخبر مخلّص أيضاً

في التلصص غواية، وله أيضاً أن يشكل معبراً إلى حياة الآخرين والاشتباك بها وكشف المستور. المتلصص عليهم لن يكونوا في وارد الشعور بأن أحداً يشاركهم ما يحرصون على أن يبقى حبيس جدران بيوتهم، ولعل في ذلك ما يستدعي في الحال العمل المخابراتي والتجسس والتنصت وما إلى هنالك مما يستبيح كل شيء في خدمة غايات أمنية ومصالح تتخطى الحياة الشخصية للأفراد.

المكان برلين الشرقية، الزمان أواسط ثمانينات القرن الماضي، الفيلم «حياة الآخرين» أو العنوان المترجم إلى الانكليزية Lives of Others، ولعل عرضه في دور العرض المحلية تأجل إلى ما لانهاية لدرجة تدفع لليأس، وليس لكم إلا أن تشاهدوه على «دي في دي»، كونه من انتاجات العام الماضي المهمة، وصاحب أوسكار أفضل فيلم أجنبي.

ليست المرحلة التاريخية التي يقدمها الفيلم ما يشكل أهم عوامل خصوصيته، على اعتباره يستعيد مرحلة الحكم الشيوعي لألمانيا الشرقية قبيل انهيار جدار برلين، بل المساحات الإنسانية التي يفتحها أمام المشاهد على هدي الظروف الاستثنائية التي فرضتها طبيعة النظام السياسي، وقبضته الحديدية على الكتاب والمثقفين، وبالتالي مصائر شخصياته والحكاية الرئيسة التي تنتظم أحداثه حولها، مضافاً إلى ذلك صياغة مخرجه وكاتبه فلورن هينكل لفيلمه بحنكة تتناغم فيها عناصره البصرية مع السيناريو المشبع بما كل ما له أن يكون توثيقاً لتلك المرحلة بالاتكاء فقط على عوالم شخصياته وحكايتها.

نبدأ من غيرد ويسلر (الريش موهي) العميل في مركز الأمن القومي، وعمله المخابراتي المنسجم تماماً مع الملامح التي تكسو وجهه، وبرودته التي تتسيّد كل شيء فتمحو كل رد فعل له أن يشوش على عمله المتفاني تماماً في تأديته على أحسن وجه، وتحيّد أي شيء له أن يعيقه من مشاعر أو غير ذلك من أحاسيس وانفعالات انسانية، في الجهة المقابلة هناك الكاتب المسرحي جورج دريمان (سبستيان كوش) وزوجته الممثلة كريستا سيلاند (مارتينا جيلاند)، ويسلر هو المتلصص كونه يكلف بمراقبة دريمان وزوجته بعد أن يتم زرع أجهزة تنصت في كل مكان في بيتهما، وتهمة المتلصص عليهم هو التحقق من ولائهم وأفعالهم الثقافية وحتى نواياهم التي قد تشكل خطراً على أمن الدولة والحزب.

تحولات درامية ستطال الشخصيات، اكتشافات تضعنا أمام الفساد الذي يطال كل شيء، كريستا تقبل قرف وزير الثقافة وتتلقى شهواته لحماية زوجها، وويسلر يتحرى أدنى التفاصيل وأهمها وهو على سطح بيت دريمان يتنصت على كل شيء، وحين ينتحر صديق دريمان بظروف غامضة يؤلف مسرحية عن الانتحارات الغامضة في ألمانيا الشرقية التي تكون من صنيع الأمن القومي، لكن ومع سماع ويسلر لكل شيء ومعرفته بأن دريمان هو من ألّف المسرحية فإنه لا يقوم بأي شيء، يتركه يؤلفها ويهربها إلى ألمانيا الغربية حيث تنشر، ولتأتي الوشاية من زوجته، والتي تخبر الأمن القومي بأن زوجها من ألّفها تحت ضغط التحقيق، ومرة أخرى يتخطى ويسلر المتوقع ونكتشف أنه أخفى الآلة الكاتبة التي كتب بها دريمان مسرحيته، كونها الدليل الوحيد على ذلك، وهي من النوع النادر الذي استقدمه رفاقه خصيصاً ليكتب عليها تلك المسرحية.

يتحرك فيلم «حياة الآخرين» في الخفاء، فدريمان ينجو من الاعتقال على يد من عليه أن يكون السبب به، واستسلام زوجته لقدرتها على تقديم شيء مقابل مواصلة حياتها مع زوجها تفضي بها إلى التضحية تحت أول ضغط يمارس عليها من قبل المخابرات، وليكون موتها في حادث كل ما عليها أن تصله تحت رحمة تأنيب ضميرها، بينما ويسلر الذي ينقل إلى مصلحة البريد وكل ما عليه هو فتح الرسائل فقط ولتكون مراقبتها من اختصاص آخرين، وليدفع ثمن استسلامه لمشاعر صادقة يشعر من خلالها بأن دريمان لا يشكل خطراً على بلده بقدر تمثّل هذا الخطر برؤسائه.

يصل الفيلم إلى انهيار جدار برلين، وحتى إلى عام ٢٠٠٣ حيث يبدأ دريمان رحلة بحث عن الرجل الذي يكون خلف خلاصه وليعثر عليه ويراقبه من بعيد دون أن يحادثه، ولنجد في النهاية أن ويسلر يشتري كتاباً من تأليف دريمان يكون عنه، هذا الكتاب له أن يكون سيناريو كل ما شاهدناه.

الأكثر مشاركة