«غران تورينو» .. من سيرث الأميركي الأبيض
القول إن هناك جديداً دائماً لدى كلينت إستوود لن يفاجئ أحداً، لا بل سنمتنع في الحال عن التغزل بقدراته العجيبة على تحويل الشيخوخة إلى منجم من الطاقة والإبداع، والوقوع في التكرار مع كل فيلم يخرجه، لكن من دون أن يمنعنا ذلك أيضاً من إيراد أمنية سريعة تتمثل في أن ينعم المرء على الأقل بهكذا شيخوخة مماثلة يستدرك فيها الإنسان ما لم يفعله بشبابه ويكون أكثر ألقاً.
فيلم Gran Toriَُ الذي أخرجه إستوود ولعب دور البطولة فيه يصرخ بنا بذلك، ولعله ـ أي إستوود ـ لم يكن بعيداً إلا بأشهر عن «تبديل» الذي عرض منذ أسبوعين في صالاتنا المحلية، كما ليقول ها أنا مجددا أقدم فيلمين في السنة، ليس لهما إلا أن يكونا على قدر كبير من الحرفية العالية، من دون أن ننسى تنويعه على المواضيع التي يقدمها، وإن كانت قادمة جميعاً من المجتمع الأميركي، وفي عملية نبش متواصلة لمفاصله ومفترقاته التاريخية التي ستصب في النهاية في رؤية إستوود نفسه، نظرة «الواسب» المراقب بتمعّن لكل المتغيرات الدائمة في مجتمع المهاجرين، كما هي حالته في هذا الفيلم المأخوذ عنوانه من نوع سيارة رياضية.
في «غران تورينو» نحن أمام والت كوالسكي (كلينت إستوود) وأيامه الأخيرة، وحياته المسكونة بالوحدة والوحشة، وفي تحالف أيضاً مع عدوانيته إن صحت الكلمة، وتحفزه الدائم لمنع أي أحد من اقتحام خصوصيته وحدود بيته المقدسة.
إنه تماما أحد تجليات الفردانية الأميركية التي تقول عنها الروائية توني موريسون «إنها مبنية على العنصرية» بمعنى أن الأبيض أبيض لأن الأسود مسحوق، ولعل استعادة قراءة موريسون لذلك سنجدها تحوم في أرجاء الفيلم، حيث كوالسكي الذي شارك في الحرب الكورية، والممتلئ تماماً بكل مكونات الحلم الأميركي، صار محاصراً بالآسويين، إنه الأبيض الوحيد المتبقي في الحي وما تبقى هم من المهاجريين الآسيويين الجدد، حيث إن عددا كبيرا منهم لا يعرف حتى الإنجليزية، وهكذا فإن الحياة الاجتماعية لكوالسكي مبنية على عزلة تامة، وزمن متوقف في الحرب الكورية، وخصوصا بعد وفاة زوجته، وعلاقته المضطربة مع ابنه وأحفاده الذين يجد فيهم ما يشبه الأعداء، كما أن الكاهن الذي يلاحقه طيلة الفيلم لا يعني له شيئاً، ويجده مناسبة للتهكم على كل ما تمثله الكنيسة بالنسبة إليه، الأمر الذي يتغير في النهاية لاستيفاء عناصر الحياة الأميركية على ما يبدو.
هذا هو كوالسكي، لكن هل يبقى كذلك؟ بالتأكيد لا، فهو سرعان ما يشتبك بمحيطه الذي نتعرف إليه من خلال الفتى الصيني ثاو (بي فانغ) الذي نجده ضائعاً تماماً مع ثقة مطلقة بأنه لا يريد أن يصبح مثل أقرانه، يعمل لدى المافيا، لكنه ينجرّ لقبول قيامه بسرقة سيارة كوالسكي الغراند تورينو، لكنه يخفق، ومن ثم يقوم كوالسكي بالدفاع عن هذا الفتى حين يأتي رجال المافيا لأخذه معهم ويرفض، لا لشيء إلا لأن رجال المافيا قد تجاوزوا حدود بيته المجاور لبيت ثاو.
بعد قيامه بذلك يصبح كوالسكي محجّ المهاجرين الآسيويين، وفي كل يوم يجد على عتبة بيته مأكولات وهدايا من جيرانه عرفاناً وشكراً لما قام به، وهو لا يريد إلا إفهامهم بأنه قام بذلك لأنهم تجاوزا حدود بيته. كوالسكي مسلح دائماً، يعيش أجواء الحرب، ومستعد لاستخدام شدته وشجاعته في أية لحظة كما لو أنه في ساحة المعركة، الأمر الذي يدفعه لمساعدة سو (أهني لير) وهي أخت ثاو حين تعرضها لتحرّش مجموعة شبان في الطريق. من هنا ومن خلال ثاو وسو يختلط كوالسكي مع جيرانه، وينفذ طلب أم ثاو في معاقبة ابنها على ما فعله حين حاول سرقة سيارته، وعليه يقوم باستخدامه لترميم البيوت المحيطة بهم وتشذيب الحدائق وما إلى هنالك، ويصيران صديقين، ويصبح ثاو ابنا له يجد فيه ما لا يجده في ابنه الحقيقي وأحفاده.
لن أواصل حتى نهاية الفيلم، تحديداً لأن الفيلم لم يعرض بعد في الدور المحلية، لكن يجب التأكيد أن ما تصل به الأحداث في الفيلم يحمل شيئاً من قراءة القادم في الحياة الأميركية، ورؤية إستوود للأميركي الذي تكون في ما يقوم كوالسكي بتوريثه لثاو، كما ليقول هذا هو من سيرث الأميركي «الأبيض»، ولا حاجة بنا إلى العرقية والعنصرية، ولا يحتاج الأمر إلا إلى الانفتاح على الآخر، مع تأكيد أن كوالسكي يجسد تماماً النموذج الأميركي المثالي المشبع بأوهام الحلم والأسطورة، الأمر المتبنى في الفيلم. «غران تورينو» هي سيارة كوالسكي الغالية على قلبه، والتي لا يجد في النهاية إلا ثاو ليرثها عنه.