«الحالة العجيبة لبنجامين باتون».. ماذا لو كانت الطفولة شيخوخة

«الحالة العجيبة..» فيلم  متقن بصرياً وسردياً. أرشيفية

الزمن كفيل بكل شيء، وقادر دائماً على إلحاق الهزيمة بنا، والساعة ليست إلا «ضريح الآمال والرغبات كلها» كما يقول وليم فوكنر، ولعل الزمن لم ينسجم يوماً وحاجات البشرية، وله أن يكون مبكراً أو متأخراً، وليس له أن يكون في توقيته المناسب إلا نادراً، وعليه تمسي الشيخوخة بالمرصاد، ويغدو الشباب فترة وجيزة سرعان ما تنقضي. فيلم The Curious Case of Benjamin Button (الحالة العجيبة لبنجامين باتون) الذي يعرض حالياً في دور العرض المحلية، يأتي من الزمن، يهب من عقاربه ويديرها في اتجاه معاكس، في مسعى منه لأن تكون الحياة مقلوبة رأساً على عقب، وبالتالي تشريح هذا الزمن بمراحله المتدرجة والمتفق عليها كما لم يحدث من قبل: طفولة، مراهقة، شباب، كهولة، شيخوخة، لكن ماذا لو بدأنا بالعكس أي من الشيخوخة بحيث نتلقى الموت الذي يترصدنا ونحن أطفال، وعلى قدر لا بأس به من «الفانتازيا» والاتكاء على قصة الروائي الأميركي الشهير سكوت فيتزغرالد.،ألن نكون في الحال أمام الحالة العجيبة لفيلم يحاول أن يكون عجيباً؟ وخارقاً لا لشيء إلا لأنه متسلح بكل مقومات النجاح التي حملتها أفلام أميركية كثيرة مثل «فورست غامب»، أول مثال يتبادر إلى الذهن لدى مشاهد «بنجامين باتون»، الإجابة متشعبة بالتأكيد ونحن نتحدث هنا عن فيلم مرشح لـ13 جائزة أوسكار، وعلى وفاء تام لأن يقدم للمشاهد فيلماً يضيفه إلى قائمة أفلامه الأميركية المحكومة بصيت ذائع. ننسى بعض الشيء الإجابة عما تقدم، ونضيء منابع الضجة الإعلامية التي رافقت هذا الفيلم، المتأتية لا محالة من براد بيت وكيت بلانشيت، ثم مخرج الفيلم ديفيد فينشر صاحب «زوديك» و«نادي القتال» وغيرهما من أفلام محكمة، وكذلك الأمر مع كاتب السيناريو ايريك روث صاحب سيناريو «فورست غامب» الذي كان طيفه يحوم في أرجاء «بنجامين باتون»، ولتكون نتيجة اجتماع كل هؤلاء  فيلماً مميزاً بالتأكيد لكن لا جديد فيه بالمعنى العميق للكلمة، ولعل عدد الأوسكارات التي سيحصدها لن يكون في النهاية إلا ترسيخاً لهذا النوع من الأفلام بوصفها أجمل وأفضل ما تنتجه هوليوود، أي الأفلام التي تبني منطقها على فكرة تبدو غريبة قريبة من الخوارق، وسرعان ما تتكشف عن مقولة خاصة، وتجسيد لتلك الفكرة لتقول كل ما يتعلق بها، الفكرة في «بنجامين باتون» تكمن في الزمن وإحداث انقلاب في المراحل العمرية، وبالتالي العبرة هنا، فما نقلبه قد نفهمه أكثر، وما يتغير يمسي توضيحاً للثابت، وما نحن إلا عبيد الزمن، وكل محاولاتنا لقهر الزمن محكومة بالفشل.

قصة «الحالة العجيبة لبنجامين باتون» تتلخص في التالي، يقوم صانع ساعات أميركي مع إعلان انتهاء الحرب العالمية الأولى بصناعة ساعة تمشي عقاربها بالمقلوب، يقوم بوضعها في محطة قطارات، في احتفال رسمي يشهده الرئيس روزفلت، وليوضح أن الذي دفعه إلى صناعتها بهذا الشكل، رغبته في أن يعود الزمن ويمنع حدوث ما حدث أثناء الحرب، وألا يموت من ماتوا، بمن فيهم ابنه الوحيد. في هذا ما يشكل الخلفية الأسطورية لحالة بنجامين العجيبة، الذي يولد لحظة انتهاء الحرب، ولتموت والدته بعد وضعها له، لكن ما أن يقع عليه والده حتى يحمله ويركض به لا يعرف إلى أين، ويضعه في النهاية على عتبة دار للعجزة، المكان الذي سيكون مثالياً لمولود كل ما فيه هو لرجل في الثمانين: بشرته المجعدة، عظامه المتيبسة، وغير ذلك من صفات عدا حجمه الصغير، حجم الطفل الرضيع.

تربي بنجامين خادمة في تلك الدار تكون أول من يعثر عليه، وتعمل على تنشئته كما لو أنه طفل صغير، بوصفه لقية إلهية أو شيئاً ينم عن بشارة أو ما شابه، وهي المشبعة بالتدين والإيمان، وليتعامل كل أولئك العجزة معه كما لو أنه من عمرهم، وكل ما في داخله طفولي. وعليه تمضي مراحله العمرية متناقضة مع جسده، فجسده السبعيني هو لفتى في العاشرة من عمره، وهكذا تتوالى فصول حياته. بنجامين (براد بيت) سيكتشف ما تخبئه الحياة له وإن كانت مقلوبة، ومع خروجه من دار العجزة لأول مرة مع ذاك الذي عاش مع القرود في حديقة حيوان، سيتصل بالعالم الخارجي، ومن ثم يعمل على قارب مع ربان وجد الفن على جسده وحوله إلى لوحة لأوشامه، وبالتأكيد فإنه سيكتشف المرأة والحب، ولتبقى ديزي (كيت بلانشت) حب حياته الأبقى، فشرارة حبه لها تنطلق حين تكون ديزي طفلة بينما هو طفل بجسد رجل عجوز، إلى أن يلتقي في منتصف العمر حين تكون ديزي قد اصبحت راقصة مدهشة، ولتخضع علاقتهما لكثير من التعقيدات في البداية، منها حادث السيارة الذي تتعرض إليه ديزي، وإن كان من توصيف لعلاقتهما فإن أفضلها نجده في المد والجزر، والتنعم والاستقرار مؤقتاً، إلى أن يفارقها بنجامين عند ولادة ابنته، لسبب واثق من صوابه، يتمثل  في ألا يمضي حياته إلى جانبها وهو يلعب معها بدل أن يربيها، وهو يزداد صغراً في مظهره الخارجي، من دون أن ننسى أن ديزي ستكون راوية الفيلم الممددة على فراش الاحتضار، وأن الفيلم بأكمله ليس إلا سردها قصة بنجامين وقصتها معه، لابنتها كارولين (جوليا أورموند).

في الفيلم انعطافات كثيرة، وشخصيات أكثر، ثانوية ورئيسة، عابرة ومتكررة، فهناك والد بنجامين الذي يعاود الظهور في حياته ويورثه معمل الأزرار الذي يملكه، وثمة لازمة كوميدية لطيفة تتكرر طيلة الفيلم تتمثل في ذاك الرجل الذي ضربته الصاعقة سبع مرات، مضافاً إلى ذلك الحرب العالمية الثانية، وكيف قاربها الفيلم من خلال بنجامين في مسعى منه لئلا يفوت مصاحبة بعض الأحداث التاريخية لأحداث الفيلم، وتحقيق نصاب الحب والحرب والموت، للوصول في النهاية إلى تطعيم الفيلم بنكهات ملحمية سريعة تضاف إلى  علاقة الحب بين بنجامين وديزي التي تشكل مركز الثقل الرئيس.

كما يضع الفيلم كل ما حمله تحت عباءة منطقه «الفنتازي» الذي سيقرر سير الأحداث بخفة ورشاقة، وتقديم ما له أن يكون مفخرة من مفاخر السينما الأميركية، بالاعتماد على مفاتيح نجاح معروفة وتوليفة نعرفها في أفلام لها المستوى نفسه. لن يكون في الأمر أي جديد، القول إن كل ما في فيلم «الحالة العجيبة لبنجامين باتون» متقن، والسردية البصرية على أشدها، فهذا متوقع، ومع إمكانيات ضخمة وحوار لنا أن نكثفه هنا بخلاصة ربما، تقول: يا لنا من كائنات حزينة لا نعرف إلا أن نموت.  

تويتر