«أين بـن لادن».. الإجابة في أسئلة لا تنتهي
أين هو أسامة بن لادن؟.. سؤال مشروع وغامض ويستدعي أسئلة أخرى كثيرة، وكل ما يحول الأمر إلى لغز عجزت عن حله كل المعدات والتقنيات الأميركية، ومعها حلف «الناتو» والأقمار الاصطناعية وأجهزة التجسس والتنصت والجيوش الجرارة.
سؤال طبيعي لأي إنسان في هذا العالم أن يطرحه، مع تباين طرق مقاربة البحث عن إجابة عنه، وليكون ذلك عند المواطن الأميركي بمثابة أولوية تخصه وحده بمجموعة من التهديدات والمخاطر، كون بن لادن العدو رقم واحد، فهو المسؤول عن «أحداث 11 سبتمبر» ، و«الحرب على الإرهاب» كان العنوان العريض لكل سياسات إدارة الرئيس جورج بوش الماضية.
من هنا تماماً، ينطلق مخرج الأفلام الوثائقية مورغان سوبرلوك في جديده (أين أسامة بن لادن في هذا العالم) طارحاً هذا السؤال على نفسه أولاً، ومقدماً لخلفياته ومن ثم منطلقاً في رحلة طويلة للبحث عن إجابة لهذا السؤال المؤرق بالنسبة إليه، والذي سيقوده إلى اكتشافات له في النهاية أن يخرج بخلاصات منها.
لمن لا يعرف سوبرلوك، فإن فيلماً سابقاً له يمكن أن نستعيده سريعاً للإشارة إلى المساحة التي يتحرك بها. الفيلم gƒ Super Size Me (حولني إلى وجبة من الحجم الكبير) إن صحت الترجمة، كون العنوان مأخوذاً عن حجم وجبات مطاعم الوجبات السريعة وتحديداً «ماكدونالدز»، مقدما في حينها، أي في عام 2004، هجائية مجنونة للوجبات السريعة وما يمكن أن تلحقه بالإنسان من أضرار تتخطى الصحية منها إلى النفسية.
قد يذكرنا سوبرلوك بمايكل مور، وقد نجده في الوقت نفسه بعيداً عنه، بمعنى أن لاختياراته الإشكالية نفسها، وفي مقاربة توثيقة لموضوعات ساخنة في المجتمع الأميركي أولاً، وعلى شيء من تحقيق ضربة معلم مثلما يقال على الصعيد الترويجي، مع التأكيد أيضاً أن أساليب مقاربة سوبرلوك لموضوعاته مختلفة عن مور، وأكثر ميلاً للوثائقية الصرفة، وإتاحة المجال أمام المشاهد للخلوص إلى ما يود تقديمه من دون إقحام مقولات مسبقة، طبعاً هذا يحضر بقوة في جديده أكثر من فيلمه عن الوجبات السريعة الذي حمل فكراً مسبقاً مضى الفيلم إلى تأكيده.
في «أين أسامة بن لادن» الأمر مختلف تماماً، البداية لا توحي إلى أين سيمضي بنا الفيلم أو البحث، التي يصلح عليها وصفها ببداية أميركية صرفة، حيث نبدأ مع سوبرلوك وهو يحدثنا عن زوجته الحامل، وبحثه عن الأمان لابنه، في ظل مجتمع يعاني من معدلات جريمة عالية، والكثير مما يستعرضه من مخاطر تصل به إلى إعصار «كاترينا» وصولاً إلى أسامة بن لادن بوصفه خطراً يهدد ابنه الذي لم ير النور بعد.
وعليه وبعد تقديمه بنية الفيلم عبر «الفيديو غيم» وتصويره بالأنيماشن صراعه مع بن لادن بأسلوب ساخر، يمضي في استعدادته لرحلته التي يأمل أن يجد فيها الإجابة على سؤاله، فنراه يقوم بالاستجابة لكل ما يمكن أن يتخيله الأميركي من مخاطر إن فكر بزيارة الشرق الأوسط.. يأخذ كل اللقاحات اللازمة، يتدرب على الأسلحة بأنواعها، وفنون القتال، والسـلوك الذي عليـه التحلـي بـه إن تعـرّض للخطف.
في العودة إلى ألعاب الفيديو التي يستعين بها سوبرلوك لتقسيم فيلمه، تتحول الرحلة إلى جولة، وكلما اضطر لتوضيح خلفيات سياسية لما نراه أمامنا من أحاديث، فإن شخصيات الرؤساء أو غيرهم تظهر أمامنا بوساطة الأنيماشن، ولتكون جولته الأولى في مصر، والثانية في المغرب، ومن ثم على التوالي فلسطين، والأردن، والسعودية، وأفغانستان، وباكستان.
زياراته لتلك البلدان تكون على اتصال مباشر مع الشارع، ووفق مستويات متنوعة، وترك الأمر أمام رصد موسع لكل الآراء التي تتسيد الشارع العربي، واستجابة لتعديلات سرعان ما تطرأ على الفيلم الذي يتحول إلى بحث كامل عن أسباب الإرهاب وخلفياته ومنابعه، إضافة لصورة أميركا والأميركي في الشارع العربي والشرق أوسطي، والدعم الأميركي للديكتاتوريات العربية، وانحشار هذا المواطن العربي بين أصوليات إرهابية يرفضها وحكومات لا تمثله تضطهده وتمارس تسلطها عليه، إضافة لإسرائيل، حيث يصبح انتقاله إلى الأراضي المحتلة، على شيء من تسليط الضوء على آراء ترفض كل ما يمثله بن لادن، فأحدهم يقول له «ليدعنا وشأننا، نحن نعرف كيف نحرر أرضنا»، بينما آخر يعتبره مثله مثل كل الحكومات العربية، التي تستخدم فلسطين كأداة لكسب تأييد الشعوب العربية والإسلاميـة، بينما يقـول له أحـد الشبان «يا ريت يفجر بن لادن اسرائيل».
وبانتقال الفيلم إلى الجانب الاسرائيلي، يغدو حديث إحدى المستوطنات طهرانيا وتكفيرا مثل خطاب بن لادن «فالأرض التي تعيش عليها هبة من الله»، وصولاً إلى تعرض سوبرلوك نفسه لمضايقات كادت تصل إلى ضربه لولا تدخل الشرطة، حين يسعى لأخذ آراء المتطرفين اليهود.
«أين أسامة بن لادن ؟» سؤال يكرره كلما التقى أحدهم في الرياض، ولتقول له فتاة «ابحث في دليل الهاتف»، فيفعل، ويزور بيته، ويستطلع السعودية وبنياتهـا الاجتماعيـة، يبحث في أفغانستان ويسأل كل من يقع عليه، ولا أحد يعرف، حتى في تورا بورا، وبيشاور في باكستان، وصولاً إلى قوات حلف «الناتو»، ولا أحد يعرف.
يخلص سوبرلوك في النهاية إلى أن «الحرب على الإرهاب» تخطت بن لادن، وأمست فكرته بذرة تجد أرضية خصبة لها في مناطق كثيرة حول العالم، وهناك كثر يقولون له «أنت تبحث عن شخص واحد»، العبارة التي يكررها هو نفسه، وهو يستطلع حجم الفقر والبؤس والحروب التي تتسيد المنطقة، وانعدام الشروط الأساسية للحياة، وليصل إلى نهاية تختلف تماماً عن البداية، فكل ما تعلمه من فنون القتال لا حاجة له بها، الناس طيبون وبسطاء وكلهم حب، فهو يتناول الغداء في بيت رجل فقير في مراكش، ويشرب الشاي في مقاهي القاهرة، والأغلبية تقول له «لا مشكلة لدينا مع الشعب الأميركي.. مشكلتنا مع الحكومة».
لا مجال لحصر الآراء والنماذج التي يقدمها الفيلم، لكنها جميعاً مبنية وفق مسار يقود في النهاية إلى تحقيق نبش واقعي وخاص جدا بالبلدان التي زارها سوبرلوك، وعلى شيء من رحلة مستكشف أميركي للهامشين في تلك البلدان، وفي استبعاد تام للأفكار المسبقة والروايات الرسمية.