«معجـزة في سانت آنـا».. ملحمــة الجندي الأميركـي الأسود
قد تبدو الحروب لبعضهم مجرد تواريخ للنصر والهزيمة، قادة وجيوش ومعارك وبمنتهى التجريد، وقد تبدو مصائر بشرية غيبت تماماً، قتلى وجرحى ومشردون، وكامل عتاد المأساة والأسى، وبالتأكيد العبث، مادامت أرواح أزهقت، وترك الأمر للسياسة أن تقرر بدمائهم ما تراه مناسباً.
نمضي من هذه المقدمة إلى الهوامش الكثيرة التي تفتحها الحروب، والمساحات المغيبة، وصلاحيتها لقراءة المجتمعات، كما فعل المخرج الجزائري رشيد بوشارب في فيلمه «بلديون»، حين قدم دور الجنود المغاربة العرب في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، معيداً إلى الواجهة مشكلة المهاجرين العرب وحقوق المواطنة، والظلم الذي لحق بهؤلاء الجنود حين حرموا من رواتبهم التقاعدية وعلى شيء من نكران أبسط حقوقهم لقاء ما قدموه من تضحيات، لها أن تتخطى ما قدمه الجندي الفرنسي «الأصلي»، الذي يتعامل مع العربي بعنصرية ودونية كما يظهره الفيلم.
يبدو أن ذلك مشجع أيضاً لمخرج أميركي، بحجم سبايك لي، لأن يقدم في جديده Miracle at st Anna (معجزة في سانت آنا) شيئاً يتقاطع مع فيلم بوشارب، لكن في منحنى يسلط فيه الضوء على العنصرية في المجتمع الأميركي، ودور الجندي الأميركي الأسود في الحرب العالمية الثانية، في تركيز على دونية هذا الجندي أمام الجندي الأبيض، وحالة التغيب التي يعاني منها هذا الجندي الذي سيكون دائماً تحت تصرف وأوامر ضابط أبيض.
فيلم سبايك لي متشعب وطويل وملحمي، وفي القصص والخطوط الدرامية ما يجعله يقول الكثير، وعلى قدر كبير من المساحات الموهوبة لكل شيء، بدءاً من الحب والمعجزات والعلاقات الإنسانية، وصولاً إلى التضحية والعنصرية والمعارك التي لا تنتهي، وبلغات متعددة إنجليزية وإيطالية وألمانية . وفي مسعى للبحث عن الإنساني في الحروب، عن علاقات البشر تحت جحيم القذائف والمجازر والرصاص، وعلى شيء يدفعنا للقول مجدداً إنه طويل جداً إلى درجة نشعر بأنه يكاد لا ينتهي، وربما بما يدفع لفتور هنا وحرارة هناك.
تبدأ قصة الفيلم في ثمانينات القرن الماضي، نحن أمام رجل عجوز اسمه هيكتور نيغرون (لاذ ألونسو) يشاهد فيلماً عن الحرب االعالمية الثانية، جميع من فيه بيض، ولنرى هذا الرجل يتساءل «ما من رجل أسود؟»، ولنراه في اليوم التالي في عمله الذي يتمثل ببيع الطوابع فإذا به ودون سابق انذار يطلق النار على رجل يسأله عن طوابع بقيمة 25 سنتاً.
على جانب آخر، نتعرف الى صحافي في أول يوم عمل له، يتولى متابعة هذه الجريمة التي ستقوده إلى قصص بلا نهاية، وستعود به إلى قرية ايطالية ابان الحرب العالمية الثانية، حيث كان هذا الرجل العجوز يخدم.
وعليه، سيعود بنا الزمن إلى الحرب، وفصيل من الجنود الزنوج ومصائرهم، التي ستكون مأساوية بالمطلق عدا هيكتور، وسيكون الأمر متشعباً إلى درجة لا تغري أبداً بسرد أحداث الفيلم، لكن سيضيء الفيلم علاقة هؤلاء الجنود بقادتهم من جهة والعنصرية التي يعانون منها وكيف يتعايشون معها، ومن جهة أخرى علاقة هؤلاء الجنود بالجيش الألماني النازي الذي يمارس كل أنواع الحرب الإعلامية معهم لدفعهم للتخلي عن خدمة الجيش الأميركي الذي يتعامل معهم بعنصرية.
فبعد أن نكون شهوداً على تعرض مجموعة كبيرة من الجنود الزنوج لما يشبه المجزرة على أيدي الجنود الألمان الذين يحاصرونهم، نقع على الناجين، الذي يلوذون بقرية ايطالية هي «سانت آنا»، وليكون هؤلاء أربعة جنود زنوج، يكونون كما يقولون للمرة الأولى بهذا القرب من البيض، وخصوصاً علاقتهم بطفل ناجٍ من مجزرة أودت بحياة كل سكان قريته، ومن ثم التأسيس لما سيكون في النهاية معجزة، تكون بسبب هذا الطفل، ورأس تمثال روماني أثري، ينجو بسببها هيكتور من موت محتم، لا بل سيكون الناجي الوحيد من بين رفاقه وسكان القرية.
هذا ملخص لما يطول ويكون عرضة لاسترسال واستدراك دائم، فكل ما نراه هو من ذاكرة هيكتور العجوز وهو يروي ما عاشه في الحرب، وفي داخل سرده حركية مستمرة في الأزمنة والشخصيات الثانوية الكثيرة التي تظهر وتغيب، والتي تجتمع جميعاً على تقديم ملحمة في الحب والحرب والمعجزات، لكن يا لها من ملحمة طويلة، يمكن لخطوط درامية كثيرة فيها أن تكون بلا داعٍ.