«الطريق».. كم من المآسي نحتاج لصناعة فيلم
الشرق مكان حزين، يمكن للأسى أن يهب من جهات تتجاوز الأربع، ولعله يأتي أيضاً مأساوياً، بحيث تتفوق الأعراف والتقاليد على كل المفاهيم والقيم، بما فيها الإنسان نفسه الذي لا تساوي حياته شيئاً أمامها، وما من شيء سيعيق القضاء عليه إن خالفها، هذا مع حصار اقتصادي وسياسي يجعل من الحياة معاناة يومية مفتوحة على كل الاحتمالات التي يتسيدها القمع بلا منازع.
هكذا مقدمة تستدعيها أسطورة سينمائية تركية ـ كردية، واسما ليس له أن يغيب عن ذاكرة السينما العالمية، على الرغم من مروره الوجيز في هذه الحياة الذي لا نجده الآن إلا مدوياً، ومحاطاً بكل ما يدهشنا طالما أنه عاش سنوات طويلة خلف القضبان وتعرض لأشكال متعددة من الاضطهاد من دون أن يزيده ذلك إلا إصراراً على الإبداع.
الحديث هنا عن يلماز غوتاي، الذي سيتبع اسمه في الحال لدى القارئ بعلامات استفهام، لا لشيء إلا لأنه بالتأكيد مثله مثل كل الذين كانوا مغايرين ومغامرين ومسكونين بالإبداع الحر، بعيدين عن الأضواء المفتعلة والنجومية الرثة على الرغم من مروره فيها أيضاً.
نقدم سريعاً لهذا المخرج ومن ثم نستعيد معاً فيلمه Yol (الطريق) صاحب سعفة «كان» الذهبية عـام 1982 كإضـاءة لما حملتـه أفلامـه الكثيرة التي أخرجها في ما يقرب الـ20 سنة وليموت ولم يتجاوز الـ.48
بدأ يلماز ممثلاً في البداية، وكان على شيء من الغزارة العجيبة، إذ إنه كان يلعب البطولة في أكثر من 10 أفلام في العام الواحد، وكلها أفلام تجارية مليئة بالمغامرات و«الأكشن» وقصص الحب وما إلى هنالك، لكنه سرعان ما تخلى من التمثيل والنجومية وراح خلف النضال السياسي والإبداع الحر، وألف عدداً من الروايات، مع انغماسه أيضاً في التحليل السياسي لمشكلات بلده، والمسائل العرقية، وكتابة المناشير والتحريض على العمل الثوري، ولتأتي السينما التي قدمها ملتزمة تماماً بالتوثيق السياسي والاجتماعي والاقتصادي للحياة في تركيا، وتحديدا جنوبها عند حدود تركيا مع سورية حيث الأكراد، وحيث نشأ وتـرعـرع في الـريف الذي يحيط بمدينـة أضنة.
كتب وأخرج يلماز غوتاي 22 فيلماً، ومنها ما حققه وهو في السجن الذي أودع فيه مرتين، في الأولى كانت بسبب نشاطاته السياسية، وفي الثانية كانت بسبب اتهامه بقتل قاض، يقال إنها تهمة لفقت له ليصدر في حقه حكم في السجن 18 سنة، وليقوم بالهرب من السجن إلى فرنسا التي عاش فيها حتى وفاته عام 1986 بعد معاناته من سرطان المعدة.
فيلم «الطريق» واحد من الأفلام التي أخرجها يلماز من السجن، بمساعدة صديقه شريف غوران، والذي يحكي عن السجن أيضاً، لكن بطريقة مغايرة تجعل منـه ملاذا من حـياة أشـد وطأة وقسـوة وعزلة منه.
نحن في سجن مفتوح على جزيرة نائية والجميع بانتظار البريد، ومن ثم بانتظار منح السجناء إجازات يخرجون بموجبها من السجن ويعودون إليه بعد أسبوع، وكل ما في تركيا يوحي بأن الأحكام العرفية مفروضة والجيش في الشوارع والسيطرة تامة على كل شيء.
سيكون الفيلم أولا وأخيراً توثيقاً للحياة التركية في فترة الانقلاب العسكري، رصداً واقعياً للوجوه والبشر والأمكنة والقطارات والبؤس وكل ما يمنح بصريا شعورا بأنك تعيش كل ما أمامك، تغوص فيه إلى حد التبلل بالحزن والأسى، بالوحدة، بالمصائر الغائمة لبشر كثر كانوا أمام الكاميرا منذ دقائق ثم اختفوا، ما من كومبارس في الفيلم، هناك بشر من لحم ودم عاشوا أثناء تصوير الفيلم ولا نعرف ما حل بهم الآن.
من هذه الإجازة نتعرف إلى مصائر خمسة سجناء، ولكل منهم قصته، وسفره الطويل إلى مدينة أضنة وما حولها، الأول اسمه سيت (طارق آكان) الذي ما أن يصل بيت أهله الذي من المفترض أن تكون زوجته وابنه بانتظاره عندهم حتى يكتشف قصة هربها مع رجل آخر، ومن ثم اقتيادها من قبل أهلها وحبسها في قرية نائية في أقصى الجبال المغمورة بثلج لا يعرف الرحمة، يقطع مسافات هائلة للوصول إليها، لا بل إن خطر موته متجمداً يبقى يرافقه وهو يمتطي خيلا سرعان ما ينفق متجمداً. وما أن يصل هناك حتى يرى ابنه، وزوجته التي يكون والدها قد حبسها في الحظيرة لثمانية أشهر محرماً عليها الاستحمام وتناول شيء عدا الماء والخبز، بانتظار ما يريد سيت أن يفعل بها. يعود بها سيت والثلج بلا رحمة، وهي بجسد ضعيف وبثياب رقيقة. سيت مازال يحبها ولا يريد أن يقتلها، لكنها تقتل بقصد أو غير قصد بأن تتجمد وهي عائدة معه، ويعجز عن انقاذها، لأنه تأخر في ذلك، ولم يهتم بها ثيابها وضعفها الشديد من جرّاء حبسها الطويل. طبعا قصة سيت تمشي جنبا إلى جنب مع قصص السجناء الآخرين، فالسجين الذي لا يحمل إلا قفصاً فيه عصفور كناري سرعان ما يودع في سجن آخر، حين يوقفه الجنود فيكتشف أنه أضاع تصريح الخروج، فيمضي إجازته بين أربعة جدران، بينما قصة سجين آخر تتلخص بأنه من الممنوع عليه الاقتراب من زوجته وأولاده، لأنه كان سبباً في موت أخيها، لكن سرعان ما تنجح زوجته بالهرب معه وأولادها.
في هذا الهرب مشهد لا ينسى، وهو حين يستعر حبهما ويضبطهما كل من في القطار في الحمام، ويخرجا منه مدانان أمام أولادهما، لا بل إن المسؤول عن القطار يوبخهما ويسألهما أن يثبتا له أنهما زوج وزوجة وأن من معهم هم أولادهم، لا بل إن قصتهما لا تتوقف عند ذلك، إذ سرعان ما يستقل القطار الذي يحملهما أحد أخوة الزوجة ويقوم بقلتهما على مرأى من أولادهما.
هذه المآسي تمضي إلى ذلك الشاب الكردي الذي ما أن يصل قريته حتى يجدها محاصرة بالجنود وفي كل يوم يقتل من يقتل، وصولاً إلى أخيه، الذي لا يتجرأ على التعرف إلى جثته أمام الجنود، ومن ثم يفرض عليه أن يتزوج زوجة أخيه حسب الأعراف، على الرغم من تلك المرأة الجميلة التي تبقى تلاحقه بعينيها طيلة وجوده في قريته. ربما قصة السجين الخامس هي الوحيدة الخالية من المآسي، كونه في طريقه لأن يخطب فتاة لا يمكنه التكلم معها إلا تحت المراقبة، وشعوره بالملل والفراغ من جراء بؤس ورتابة الحياة في أضنة مفضلا السجن على هذه الحياة، لا بل إن جميع السجناء سرعان ما يعودون إلى سجنهم بعد أن يشعروا بأن هربهم منه، هو هرب إلى سجن أشد وطأة وقسوة. في الكتابة عن فيلم غوتاي ما يدفع للإحساس بالتقصير والعجز عن تقديم حساسيته، أو نبش المعاني الكثيرة التي يقدمها، والإيقاع المدهش الذي تتوالى فيه المآسي إلى جانب واقع مرصود بعيني فنان ملتزم، ومسكون بهموم الإنسان البسيط ومآسيه المؤلمة.