مصر.. مقاومة التطبيع في مهبّ الموسيقى
قبل نحو 30 عاماً كان خيال كثير من أهل مصر ومثقفيها يعجز عن تصور دعوة اسرائيلي للعزف في دار الاوبرا المصرية، واستقباله بحفاوة يعزوها البعض الى ما يراه اعتدالاً في نظرة الموسيقي دانيال بارنبويم الى الصراع العربي الاسرائيلي.
وقدم بارنبويم الخميس الماضي حفلاً موسيقياً بالاشتراك مع أوركسترا القاهرة السيمفوني في دار الأوبرا، لكن زيارته للقاهرة تضع «الثوابت الوطنية» في رأي كثير من القوى السياسية المصرية على المحك، وفيما اعتبر كتاب ومفكرون أن حفل الموسيقي الإسرائيلي لا علاقة له مطلقاً بالسياسة، رأى آخرون أن الفن ليس بمنأى عن مجالات الحياة الأخرى، مطالبين بتثبيت الموقف الرافض للتطبيع، بدلاً من محاولات اختراقه وتركه في مهب الريح.
ففي عام 1980 عبر المواطن المصري سعد حلاوة (33 عاماً) عن رفضه للتطبيع باحتجاز بعض موظفي الوحدة المحلية بقريته رهائن وأطلق من مكبر للصوت أغاني وطنية وأبلغ الاهالي الذين يعلمون طيبته أنه ليس شريراً ولا ينوي إيذاء أحد بل يحتج على استقبال الرئيس السابق أنور السادات لأول سفير اسرائيلي بمصر ويطالب بطرد السفير لكن الشرطة حاصرته حتى قتل، واتهم بالجنون.
وكتب الشاعر نزار قباني تحت عنوان «صديقي المجنون سعد حلاوة» قائلاً «هو مجنون مصر الجميل الذي كان أجمل منا جميعاً وأفصح منا جميعاً.. القصة انتهت كما تنتهي قصص كل المجانين الذين يفكرون أكثر من اللازم ويحسون أكثر من اللازم ويعذبهم ضميرهم أكثر من اللازم.. أطلقوا النار على المجنون حتى لا ينتقل جنونه الى الآخرين».
وقال السينارست أسامة أنور عكاشة إن «الفن ليس له وطن لأنه يقدم لغة أخرى يجب أن نتحدث فيها بمنطق خارج السياسة ثم ان بارنبويم ليس مسؤولاً عن جرائم اسرائيل بحق الفلسطينيين وبعض الاسرائيليين غير مسؤولين أيضاً»، مضيفاً أن الساسة والعسكريين هم المسؤولون.
لكن أستاذ التاريخ الحديث عاصم الدسوقي يشدد على أن الفنان يحمل رسالة ولا ينفصل فنه عن موقفه السياسي «ولم نسمع أن بارنبويم كان له موقف من حصار قادة بلاده لغزة أو أنه ركب احدى سفن كسر الحصار القادمة من قبرص في بداية 2009 وكان عليه أن يصدر بياناً يتبرأ فيه مما فعلوه في غزة»، في اشارة الى العدوان البري الاسرائيلي على القطاع المحاصر لمدة 22 يوماً وأودى بحياة نحو 1300 فلسطيني بينهم 410 على الاقل من الاطفال وأصيب نحو 5300 شخص بينهم 1631 طفلاً. وكان بارنبويم صديقاً للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003) وتبنيا تأسيس فرقة موسيقية تجمع عازفين يهوداً ومسيحيين ومسلمين ايماناً بما اعتبراه تعايشاً مشتركاً بين الديانات.
وقال بارنبويم عشية الحفل في مؤتمر صحافي في القاهرة إنه يحمل الجنسية الارجنتينية حيث ولد والجنسية الاسبانية باعتباره أحد المهتمين بحوار الحضارات الذي تدعمه مدريد والجنسيتين الاسرائيلية والفلسطينية حيث منحته السلطة الفلسطينية جواز سفر في يناير 2008.
وأضاف أنه دخل مصر بجواز سفره الاسباني وأن تلميذة فلسطينية قالت له حين عزف في رام الله قبل سنوات «أنت أول من يأتي من اسرائيل لا يحمل سلاحاً» وهي الآن في الـ،19 وأصبحت احد أعضاء فرقته، مضيفاً أنه لا يعتبر زيارته لمصر تطبيعاً وقال «أتيت لأقدم موسيقى».
وتساءل عاصم الدسوقي «اذا لم يكن حضوره تطبيعاً فماذا يكون التطبيع.. زيارته جزء من التطبيع ومن نتائج معاهدة السلام (التي وقعتها مصر واسرائيل 1979) لكن بعض رموز اليسار المهجن يفصلون الفن عن السياسة.. بارنبويم كشف عن وجهه السياسي حين خطب بعد العزف» في اشارة الى قول بارنبويم في الحفل إنه تربى في اسرائيل وتعلم فيها وتألمه بسبب احتلال اسرائيل للاراضي الفلسطينية.
ومنذ توقيع معاهدة السلام بين مصر واسرائيل يرفض المثقفون المصريون كل أشكال التطبيع مع اسرائيل بمن فيهم وزير الثقافة فاروق حسني الذي يصر على رفضه التطبيع حتى يتم تسوية القضية الفلسطينية.
ويرى مثقفون مصريون أن وزير الثقافة يسعى لاسترضاء اسرائيل قبيل انتخابات منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) حيث رشحته بلاده مديراً للمنظمة كما يتهمونه بالتنازل بقبول هذه الزيارة التي أثارت جدلاً واسعاً في الآونة الاخيرة.
ففي يوم الحفل كتبت المستشارة تهاني الجبالي مقالاً عنوانه «ضمير المثقف بين شابلن وبارنبويم» في صحيفة الاهرام الرسمية قارنت فيه بين رفض شارلي شابلن أن يحصل على الهوية الاسرائيلية «رقم واحد» بحجة أن «سمّ العنصرية النازي قد تسلل من جسد الجلاد الى الضحية فأصبحت جلاداً بدورها تبحث عن ضحية ستكون هي الشعب الفلسطيني» وموقف بارنبويم الذي قالت إن عليه مواجهة نفسه بسؤال «هل يقبل الانتماء لدولة تقوم على العنصرية الدينية والعرقية أم لا».
وفي اليوم نفسه كتب الناقد السينمائي سمير فريد في صحيفة «المصري اليوم» المستقلة مقالاً عنوانه «اليوم يشع الجمال من أصابع دانيال بارنبويم في مصر الحضارة» شدد فيه على أن مصر تشهد بحضور بارنبويم «حدثاً كبيراً سوف يذكر في تاريخها».
ولكن الكاتبة فتحية العسال قالت إن «هذه الزيارة تجعلنا نعيد التذكير بضرورة رفض التطبيع. الزيارة تدعونا لتثبيت الموقف الرافض للتطبيع، وليس اعادة النظر فيه. كل الجرائم التي ترتكبها اسرائيل تدفعنا للتمسك بما أعلناه من مواقف».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news