المخرج الفرنسي جاك لوك غودار.        أرشيفية

حين يتحوّل الفيلم إلى كتاب

يفرض التطوّر التقني على المفاهيم والنظريات التي رافقت الفن إجراءات صارمة، ومتغيرات تمتلك من السرعة، ما يجعلها على شيء من المواكبة التي توحي بحالة لهاث خلفها للتمكن من اللحاق بها، وعليه ستكون رصانة ما يمكن اعتباره متعارفاً عليه محط شك وإعادة نظر، وعلى شيء من تكرار هذه العملية إلى ما لانهاية.

ولئلا نخوض غمار تنظير مجرد، فإن مناسبة مقدمتنا تلك متأتية من مقاربة سينمائية مختلفة تفرضها في أيامنا هذه ما يعرف بتقنية ipods وما تتيحه هذه التقنية من اقتراب فعل المشاهدة من فعل القراءة، وغير ذلك مما جاء في افتتاحية رئيس تحرير مجلة «صوت وصورة» نيك جميس، لعدد شهر مايو المقبل وحديثه عن هذه التقنية التي أمست ظاهرة حقيقية في القطارات والحافلات وغيرها من وسائل النقل، التي تجعل المسافر غارقاً في مشاهدة فيلم يحمله جهازه الخاص صغير الحجم بدل الغرق في قراءة كتاب كما درج المسافر على الاستعانة به لتبديد الأوقات المهدورة في وسائل النقل.

يعيدنا ما تقدم إلى الناقد السينمائي الفرنسي الشهير اندريه بازان الذي في معرض حديثه عن الرواية والسينما وجد أن الأمر يتخطى الأدوات الفنية، وكون أداة الرواية اللغة، بينما تشكل الصورة أداة السينما، إلى القراءة والمشاهدة ونقطة الخلاف الجوهرية بينهما، كون الأولى هي لقارئ مفرد يكون في عزلة عن العالم حوله، وعلى عكس الفيلم الذي يكون موجها لجمهـور تجمعـه صالة العـرض التـي تكـون معتمـة تمـاما مقابـل الشاشـة التـي تحمل الفيلم.

الآن، يمكن الحديث عن شيء آخر، بمعنى أن تقنية المشاهدة بددت تماماً ما تقدم، ولعلها صارت أقرب إلى القراءة وفعل العزلة الذي تفرضه، و«المتعة البرجوازية» بامتياز التي تتيحها، هذا أيضا تعزيز للنزعة الفردية التي وجد العالم فيها أقصى ما يمكن الطموح إليه.

لكن وبالعودة إلى المخرج الفرنسي جان لوك غودار فإن تبديد المفهوم الجمعي للفيلم يمكن ـ لكن في زمن آخر غير الذي نحن فيه ـ أن يحمل معاني ثورية، وعلى شيء من استعادة مفاهميه الثورية المتسلحة بمقاربة بريشتية للسينما (نسبة إلى المسرحي الألماني برتولد بريشت)، سبق وأن قدمت لها، ولعل العودة إلها مجدداً ستكون دائمة كونها ـ أي تلك الأفكار ـ صالحة بامتياز للاستثمار في ظل التطوّرات التقنية، التي من المفترض أن تترافق وأفكار جديدة تتخطى المطامح الربحية للشركات العابرة للقارات.

كان غودار يطمح بقوة أن يتم تدمير مفهوم دار العرض السينمائي، وأن تتحوّل السينما إلى منشورات، حسب تعبيره، بمعنى والكلام له هنا «إن عرض فيلم يمكن أن يجري في الشقق السكنية والاجتماعات. ويمكن مبادلتها مع أفلام أخرى».

ويضيف «يجب صنع الأفلام جماعة وحول فكرة سياسية، على غرار الفروض المدرسية التي يتشارك الطلاب في حلّها، فأنا أعتقد أنه يجب صنع الأفلام بالتشارك مع الذين يشاهدونها».

يقول غودار في تلك المرحلة إن «الرأسمالية فرضت فكرة الكاميرا اللعبة، التي تتيح لأي شخص أن يصور ما يرغب به ومشاهدته بينما يتناول العشاء مع أسرته، طبعا الآن تخطى الأمر ذلك بمئات المرات، ويعتقد أن عليه وجميع من يؤمن بربط الصورة بالنشاط الثوري استغلال ذلك التطور واستثماره في أن نعيد الإفصاح في الكلام، ومعرفة ما الكلام الذي كمّت الأفواه من دون أن يقال، والمعوقات والمعاناة التي يفرضها القدامى على الجدد للحيلولة من دون أن يقال».

ولربط ذلك ببعد غودار الأيدلوجي فإنه يضيف «من أجل صنع فيلم صائب من الناحية السياسية، ينبغي الارتباط مع الأشخاص الذين نرى فيهم أنهم يتمتعون سياسياً بالموقف الصائب. والمقصود: أولئك الذين يعانون الاضطهاد، ويكافحون القمع، فيضع المرء نفسه في خدمتهم. التعلم منهم وتعليمهم في الوقت نفسه. والتخلي عن صنع الأفلام. وهجران مفهوم المؤلف طبقاً لما كان هذا المفهوم عليه».

كل ما تقدم ليس بوارد مشاهد الفيلم الآن الذي سيكون مستمتعاً بمشاهدة «سبايدر مان» وهو يدغدغ حلم البشر بالتفوق، أو يهبط عليه الهلع من فيلم مثل «المنشار» بأجزائه الخمسة، بينما يعبر به القطار نفقاً طويلاً.

نحن أمام انتصار مجرد للتقنية، واستثمار كامل لها في اللذة التي سرعان ما تزيد الإنسان عزلة، ولعل مفاهيم ما بعد الحداثة وغيرها من نظريات تقول بـ«موت الفن» وما إلى هنالك، لها أن تجد في عجزها عن مواكبة التقدم الرقمي معبراً لتبني تلك الأفكار التدميرية.

الأكثر مشاركة