ألكسندر سوخوروف وريث السينما السوفييتية

ألسكندر سوخوروف والوفاء للصورة والتجريب.     أرشيفية

سيمضي حديثنا مباشرة إلى الصورة وتجلياتها السينمائية، ومعابرها الكثيرة التي تترك باباً موارباً دائماً للتجريب ومحاولة تقديم ما له أن يكون إضافة حقيقية، تتخطى وصفنا لفيلم بأنه جميل، أو مسلٍ، ولعلنا هنا سنكون مباشرة أمام المخرج الروسي ألكسندر سوخوروف وكل ما لهذا الاسم أن يجسده من استكمال لروح نبحث عنها دائما في السينما العالمية، وعلى شيء يدفعنا لاعتباره استكمالاً لمنجزات السينما الروسية الاستثنائية بدءاً من أزنشتين مروراً ببودفكين وصولاً إلى تاركوفسكي، وأسماء كثيرة أخرى جسدت ومازالت الكتلة الإبداعية والمنهجية الأكثر تماسكاً حول العالم، وليكون سوخوروف وريثاً شرعياً لتلك السينما ومكملاً لنزوعها نحو التجريب والانتصار للفن السابع بوصفه فناً أولاً.

ثمة غواية في ما تقدم للتأكيد على ما يمكن لوسائل الإعلام أن تفعله، ونحن نعود مثلاً إلى أيام الحرب الباردة، وكيف للسينما الأميركية أن تكون الحاضر الأكبر عالمياً في عملية تغييب إعلامية لما هو أكثر وأشد أهمية كان يحدث على أرض «العدو» لأميركا، أي الاتحاد السوفييتي، والنظريات السينمائية الكثيرة التي خرج بها المخرجون السوفييت، ومساحة التجريب التي كانت تفاجئ حقيقة الغرب الرأسمالي وهو يؤكد مراراً بأن النظام السوفييتي بشموليته وديكتاتوريته لا يمكن أن يخرج بغير أفلام مؤدلجة تخدم الثورة والطبقة العاملة، وأن الأمر لا يتخطى «الواقعية الاشتراكية»، وليكون السؤال المغيب وأي واقعية، إنها واقعية «المدرعة بوتمكين» وغيرها من أفلام كانت غاياتها الفنية تتناغم وثوريتها، وقادمة دائمة من روح الشعب وتطلعاته، من أحلام الفقراء ومعاناتهم، ومع ترك الباب مفتوحاً أمام خيال عملي، إن صح الوصف، حمله تاركوفسكي، وجدلية نضالية شعبية مناهضة للديكتاتورية جاءت على يد سيرغي بارادجانوف، وحديث يطول للتدليل على فداحة ما يجرى تغيبه تحت لافتة الصراعات السياسية. ولعل الاستشهاد بما قاله برتولد بريشت عن السينما السوفييتية سيلخص تلك الواقعية «قبل أن تبني الطبقة العاملة الروسيةـ بعد الثورةـ صناعاتها الثقيلة، بنت صناعتها السينمائية».

سوخوروف وريث تلك الفضاءات وعلى صدام معها في المرحلة السوفييتية، ولعل سنده الأكبر في مسيرته كان أندريه تاركوفسكي الذي آمن تماما بموهبته، وعبّد الطريق أمام أفلامه خصوصاً بعد طرده من معهد السينما في موسكو، لا بل إننا سنجد في فيلمه «أم وابن» 1998 روح تاركوفسكي تحلّق فيه، مع مواصلة إصراره على التجريب دائما متبعا ذلك بفيلمه «الفلك الروسي» 2001 وغيرها من عشرات الأفلام التي قدّمها وكلها موجهة إلى بناء مملكته السينمائية الخاصة، ولعل تقديمنا هنا عن فيلمه «أم وابن» سيكون بمثابة المثال.

مشاهدة ذلك الفيلم تدفع للكتابة عنه بآلية تتمثل بكتابة نص موازٍ، له أن يتخذ من الشعر معبراً إليه، مع التأكيد أولاً بأنه فيلم تشكيلي بامتياز، والعناصر اللونية فيه تتبع فضاءات اللوحة، حيث كل لقطة فيه التي تكون غالباً طويلة تمتلك كل عناصر اللوحة، ولعل ذلك يداهمنا من اللقطة الأولى، ونحن أمام لقطة ثابتة للأم وابنها. وما أن يتحركا ببطء حتى تتفكك عناصر تلك اللوحة، ولعل الدارما في هذا الفيلم تكمن في علاقة الابن بأمه، بالأحاديث المقتضبة، وفي هذا الابن الذي قرر ترك كل شيء والالتصاق بأمه التي تنتظر موتها في بيت ناءٍ تحيط به الغابات والسهول المترامية الأطراف، وما من صوت إلا صوت الريح والمطر وقرقعة الحطب المشتعل في المدفأة.

يصعب جداً نقل الفيلم إلى الأوراق، نحن نتحدث هنا عن جماليات بصرية متطرفة في احتفائها بالصورة فقط، وكل ما في الفيلم هو الأم وابنها، ولتأتي اللقطة الختامية مع فراشة تحلق تستقر على يد الأم المعروقة، وهي مسجاة على سرير يشبه المذبح، يضع الابن وجهه على يدها من دون أن تطير الفراشة، لقطة مدهشة كما كل لقطة، وليقول لنا بقاء الفراشة على يدها بأنها ماتت.

تويتر