<p align=right>شباك التذاكر ليس مقياساً لعلاقة الجمهور بالسينما. أرشيفية</p>

دور السينما المحلية تصرخ: يعيش «الناتشوز»

تتخذ السينما في الإمارات شكلاً طقسياً، له أن يبلغ ذروته مع عطلة نهاية الأسبوع، وعلى هيئة ترفيه متاح بقوة ومتسلح بكل أنواع «الفوشار» المحلى أو المطعم بالجبنة و«الناتشوز» وكل تلك الصلصات الحارة، التي سرعان ما ستكون محفزاً لحاسة الذوق واستفزازاً لها إن كان الفيلم باهتًا أو بارداً بلا طعم ولا لون، مع الاستعانة بجرعات من مشروبات كثيرة.

حسناً ما يبحث عنه الجمهور في الإمارات بجنسياته المتعددة تمضية ساعتين من التسلية، وكسر رتابة الأسبوع الذي يمضي بلمح البصر تحت وطأة العمل والازدحام، وغير ذلك من أعباء، وعلى شيء من تتبع لنمط عيش شبه جماعي، مترافق أيضا مع نزعة استهلاكية يمسي فيها التسوق واحداً من مرافق التسلية مثله مثل الذهاب إلى البحر أو مطعم أو «مقهى»، وكذلك الأمر بالنسبة للسينما، المنزوع عنها أية صفة ثقافية في دور العرض المنتشرة في أرجاء الدولة، أو ممازجة الترفيه للثقافة أمراً بديهياً، آخذين بعين الاعتبار أن السينما هي القطاع الثقافي الأنشط إماراتياً كونه متوافراً ومتجدداً أسبوعياً، الأمر المفتقد بالنسبة للمسرح أو الأنشطة الثقافية الأخرى التي إن وجدت فإنها تكون موسمية وعلى هيئة مهرجانات أو فعاليات ليس لها مكانها ودورها الموجودان في جميع مراكز التسوق.

الحقائق السابقة الذكر، لها أن تنعكس تماماً على ما نشاهده أسبوعياً أولاً في سينمات «غراند» و«سيني ستار» خيارين لا ثالث لهما، مع جهة توزيع واحدة لا ثاني لها متحكمة في كل ما نراه، لها أن ترفدنا أسبوعياً بالأفلام وعينها على شيء واحد فقط يتمثل في الربح والربح فقط، والابتعاد المطلق عن تقديم أي فيلم قد يدفع للاعتقاد ولو بنسبة لا تتجاوز الواحد بالمائة أنه خاص، أو يطمح لتقديم أي شيء خارج الترفيه، وإن حصل وشاهدنا فيلماً جيداً فإنه سيكون في النهاية مصادقاً عليه هوليوودياً ومسوّقاً له بما يكفل نتائج عرضه المالية بالتأكيد، وهكذا فإن المشاهد الإماراتي محروم من مشاهدة أي فيلم قد يحتوي على أي قدر من الخصوصية خارج التسلية والترفيه، وسيكون في أحيان كثيرة، أي الفيلم، فاشلاً في تحقيق هذين الشرطين المقدسين.

مقارنة بسيطة مع ما يعرض في الإمارات وما يعرض في لبنان في الأسبوعين الماضيين، ستوضح ما تقدّم، فما تحمله دور العرض اللبنانية يكاد يكون مطابقاً للدور هنا، لكن مع إضافات لها أن تقدم خيارات عادلة قليلاً، بمعنى أن كل أفلام هذا الأسبوع المتاحة أمامنا في الدولة معروضة في لبنان وإلى جانبها فيلم «الصف» الحائز على سعفة «كان» الذهبية العام الماضي، وفيلم «جوع» الفائز بجائزة برنامج «نظرة ما» في «كان»، وهذا يقودنا إلى أن أفلام مخرجين مثل أمير كوستاريسا أو كوستا غافرس وغيرهما، تعرض في لبنان وإلى جانبها فيلم «منشار» و«سبايدر مان» على سبيل المثال من دون أن يكون ذلك متاحاً لنا في الإمارات.

وفي السياق نفسه فإن دراسة علاقة الجمهور مع السينما لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون مقررة فقط وفق شباك التذاكر والتأسيس لما يعرض وفق افتراضات آمنة تماماً لا تفرط في فلس واحد في خدمة السينما كفن. لا أحد ينفي مشروعية الربح الذي قد يكون مجدياً في «الناتشوز» و«الفوشار» أكثر، لكن ألا يمكن لهذا الربح أن يكون في جزء يسير منه فعلاً ثقافياً، لئلا نضطر لوصفه - كما لو كان استجداء - بفعل خيري يترافق مع الأرباح الهائلة.

وإن كانت السينما «فن إيهام بالواقع» فإن هذا الواقع لن نجده معروضا على شاشاتنا، وعلى شيء من الاستسلام لما توصل العالم إلى أنه نمط عيش فريد، يتمثل في العمل والترفيه وعدم استخدام أي ذرة من المخ في تفكير أو ما شابه، وبما أن على الجميع أن يتحولوا إلى أرقام في سوق العمل، فإن مقعد السينما هو للاسترخاء، وتدمير الواقع ورفع نسبة الأدرينالين، والسلام.

وتلك الآلية في تقديم الفن السابع لن يقف خلفها إلا المسعى الصافي للربح، وإيهام المشاهد بأن ما يراه هو كل السينما، لدرجة أمسى فيها المشاهد عالمياً وعربياً ومحلياً غير قادر على احتمال لقطة طويلة، أو فسحة تأمل صغيرة تخرج عليه من فيلم، أو حوار قد يحتمل إعمال التفكير فيه للخلوص بشيء، كل ما يبحث عنه هو ما تعوّد عليه موجوداً بكثرة ومكرراً إلى ما لا نهاية، وليكن الرعب خلاصاً من الرتابة، وسوبرمان آخر أمل لنا في الخلاص، وصولاً إلى التعامل مع هجوم المريخيين بوصفه أكبر كارثة قادمة وليست المجاعات والأوبئة والحروب، مكتفياً بأن «انفلونزا الخنازير» هو المرض الوحيد الذي يفتك حاليا بالبشرية، كونه يقدم كما الأفلام التجارية وفي احتلال مطلق لوسائل الإعلام من دون الالتفات لعشرات الأوبئة الفتاكة طالما أنها تطال الفقراء.

وعند البحث عن أهم الأفلام عالميا على أقراص «دي في دي» فإنك لن تجد أيضا إلا تلك التجارية، وإن عثرت على مجموعة من روائع الأفلام فإنك ستجدها بثلاثة أضعاف السعر العادي، فتش عن أفلام كوروساوا أو أنطونيوني أو فيلليني في «فيرجين ميغا ستور» وسترى، على عكس بلدان أوروبية كثيرة، حيث تكون هذه الأفلام بأسعار تشجيعية، وفي أحيان كثيرة مدعومة من مؤسسات ثقافية، مثلها مثل ألبومات الموسيقى الكلاسيكية.

ضمن هذا الحصار على الفن واحتكاره، وتقديمه للبشر مفرغاً ومنزوع الدسم، يمكن الحديث عن «دايت» يطال الثقافة بمفهومها الأوسع، وعلى مبدأ السكرين بدل السكر، والحلاوة المعدة كيميائياً بدل أضرار السكر الذي لا تكتشف أضراره إلا للترويج لبدائل رديئة عنه، الأمر الذي أمسى مع الوقت ملوحة ومرارة، على كل مؤسسة ثقافية في الدولة أن تبحث عن حلول لها.

والأسئلة التي نطرحها في النهاية: لمَ لا تخصص دور العرض صالة واحدة لا أكثر، ولتكن أصغر صالة على الإطلاق، لعرض الأفلام التي ترفضها وتتجاوزها؟ لِمَ النوادي السينمائية غائبة؟ لِمَ لا تسهم المؤسسات والجامعات بدعم، ليس لإنتاج الأفلام فقط بل دعم المكتبة السينمائية بروائع الأفلام، وتوفيرها بأسعار خاصة للطلبة والراغبين بمشاهدتها؟ طبعاً هذا يمتد إلى الكتب والألبومات الموسيقية وغيرها.

الأكثر مشاركة