«ماما روما».. عن المدينة والأفلام

هل يكفي أن ترد كلمة «روما» في عنوان فيلم لنفكر في المدينة، في عاصمة إيطاليا تحديداً، أم أنها المدينة التي خلدتها السينما قبل أي شيء آخر، وأفلام كثيرة تتلامح في الذاكرة عنها. نمضي خلف الإجابة، وفي الذهن فيلم بيير بابلو بازوليني «ماما روما» 1962 ،فإذا به يعيدنا في الذاكرة إلى «روما» فديريكو فيليني عام 1972 ،وكيف يتركها في النهاية تحت رحمة اجتياح الدراجات النارية، وهي تزأر وتبدد سكينة الليل، وعلى شيء من غوغائية الأصوات الصادرة عنها واجتياحها المجنون بكل ما تمثله الدراجات من استباحة لمدينة تاريخية، مثل روما ، حين تكون بكاملها تحت رحمة عجلاتها.

ولعل المسعى للحديث عن فيلم بازوليني سيعيدنا أيضاً إلى ما اعتبر فاتحة الواقعية الإيطالية الجديدة، أي إلى فيلم «روما مدينة مفتوحة» 1945 لربرتو روسيليني، وقد ساهم فلليني في كتابته، وقدم توثيقاً حصيفاً للمقاومة الإيطالية ضد النازية عبر قصة جيرار منفريدي القائد المقاوم، وملاحقة الألمان له، ولجوئه إلى صديقه عامل المطبعة فرانشيسكو، واستعانة مانفريدي بالأب مورسيني للقيام بمهامه، عبر تسليم المقاومة مبالغ مالية، وغير ذلك، إلى أن تلقي القوات الألمانية القبض عليهم جميعاً، فيموت منفريدي تحت التعذيب، ومن ثم يتم إعدام الأب مورسيني رمياً بالرصاص وعلى مرأى من الأطفال الذين يرعاهم في الكنيسة . وفي مشهد ختامي يضيء الأمل عبر الطفولة، الثيمة الحاضرة في جميع الأفلام التي جاءت من بعده.

الآن، لن نستسلم لمزيد من الأفلام عن روما، سنمضي إلى «ماما روما» بازوليني، ونحن نحاول منع أنفسنا من الحديث عن ميلانو مثلاً التي شكلت محور اهتمام السينما الإيطالية، على اعتبارها المدينة الصناعية التي حملت كل تطورات إيطاليا واستثماراتها بعد الحرب العالمية الثانية، ولنلقي الضوء على ذلك في مقال آخر، لئلا نفوت الحديث عن فيلم بازوليني وآنا مانياني التي لعبت دور ماما روما مشكلة عاملاً رئيساً في نجاح ذلك الفيلم الغائم.

ونقصد بالغائم كونه جوبه باعتراضات كبيرة في أثناء عرضه في مهرجان البندقية، ووصف على الدوام بالفيلم اللاأخلاقي، إلى درجة الوقوع على اكتشاف مدهش يتمثل بأنه بقي ممنوعاً في الولايات المتحدة حتى عام 1990 ،أي لأكثر من 28 سنة، وتم عرضه على يد مارتن سكورسيزي في فعالية نظمها خصيصاً للاحتفاء بالسينما الإيطالية التي يعتبرها معشوقته الأبدية.

لن نتوقف كثيراً عند هذا المنع العجيب، كوننا على قناعة راسخة بأن الرقابة، أينما وجدت، تمثل أغرب ما توصلت إليه البشرية، مع امتلاكها قدرة خارقة وأبدية على إدهاشنا.

يقدم بازوليني في «ماما روما» ما يمكن وصفه بدراما مأزومة، ومصاغة وفق زوايا متعددة يتشابك فيها الاجتماعي بالاقتصادي والنفسي والديني، أو ما يمكن اعتبارها خلطة بازوليني الأثيرة، ومنبع مقارباته الإبداعية، فنحن أمام دور مكتوب لآنا مانيني التي ما إن شاهدت أول أفلام بازوليني «أكاتوني»، حتى سألته أن يقدم لها دوراً في أفلامه، ولتأتي شخصية ماما روما كما لو أن بازوليني فصّلها تماماً على مقاس وقدرات مانياني، فالشخصية البذيئة صاحبة الصوت العالي، سرعان ما نكتشف أنها بائعة هوى سابقة في منتصف العمر، تعود إلى قريتها لاستعادة ابنها المراهق، وقد تخلت عن مهنتها المذلة، واشترت بيتاً وصارت تعمل في بيع الخضار.

وعليه يمضي الفيلم في تتبع علاقة الأم بابنها، والعالم الذي تسعى إلى تقديمه إليه، وتحالف كل شيء حولها على فشلها، رغم فعلها المستحيل بكل ما تعنيه الكلمة، فحين تجد ابنها عالقاً في غرام امرأة لعوب، تهب نفسها لكل رفاقه، تسأل مساعدة زميلتها في مهنتها السابقة لتنسيه تلك المرأة عبر جعله يتذوق غرام امرأة غيرها، كما أنها تلجأ إلى حيلة كبيرة لتساعد ابنها على الحصول على عمل.

كل ذلك سيكون قبض الريح في النهاية، سيهجم عليها ماضيها من اللحظة التي تأتي فيها بابنها إلى روما، وسيكون تعليمه له رقص التانغو لحظات فرح عابرة مثلما هو حالها حين تحضر له دراجة نارية وتركب خلفه ويمضيا في رحلة طويلة في شوارع روما.

سيكتشف الابن ماضي أمه، وسيمضي في الانحراف مع رفاقه، إلى أن يصل إلى نهاية يصورها على شيء من مشاهد صلب المسيح، الموروث الديني الذي يستعين به بازوليني دائماً.

في الفيلم رصد اجتماعي خاص، وبحث مؤلم في مطامح من في العالم السفلي أو المضطهدين اجتماعياً في التغيير، وممارسة حياة طبيعية، ويبدو أن بازوليني يقول إن ماما روما تأخرت في استدراكها وربما على شيء من اللعنة التي ستلاحقها دائما، أو في مسعى لمجاز ما إن كانت روما المدينة هي ماما روما، وابنها الذي يقدم أضحية لواقع كامل له شروطه الاجتماعية والاقتصادية التي ترسم قدره.

الأكثر مشاركة