«عمـاء».. فيلم لنا أن نبصر به

حملت هذه الصفحة مقالات عدة عن المخرج البرازيلي فرناندو ميرالس، كما تم تناول فيلمه «عماء» أكثر من مرة ومناسبة، سواء قبل انتهاء ميراليس من تصويره، أو عند قراءة الفيلم كونه فيلم افتتاح الدورة ما قبل الأخيرة من مهرجان «كان» السينمائي، وليكون عرضه حالياً في دور العرض المحلية مناسبة جديدة للتقديم له كونه ينتمي إلى نوع من الأفلام قليلاً ما نشاهدها في دورنا المحلية.

الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو (نوبل 1998) الذي لم يتمكن من مشاهدته أثناء عرضه الأول في «كان»، وعلى عكس رغبته التي اصطدمت بمرضه ومنع الأطباء له من السفر، ما ترتب على ميراليس التوجه إلى ليشبونة لعرضه عليه.

ولعل ميراليس يعرف أن هذا أقل ما عليه فعله مع ساراماغو، الذي استغرق إقناعه بقبول تحويل روايته إلى فيلم سنوات طويلة تعود به إلى عام 1997 ورفض ساراماغو حينها ذلك معتبراً «تجسيد (عماء) سينمائياً سيكون أمراً بالغ السوء»، ليعود دون ماكلر كاتب السيناريو بعرض الموضوع مجدداً على ساراماغو، وليوافق هذا الأخير بعد مشاهدته أفلام ميراليس معتبراً أن بإمكان هذا المخرج الخروج بفيلم جيد من روايته، إضافة إلى كون إنتاج هذا الفيلم سيكون مشتركاً بين البرازيل وكندا واليابان وبريطانيا و«بعيداً عن يد هوليوود» كما يقول ساراماغو المعروف بمواقفه المناهضة للسياسات الأميركية والإسرائيلية، ولنا في العرائض التي وقعها، واعتصامه مع الرئيس الراحل ياسر عرفات أثناء حصاره مثالا سريعا عن مواقفه الكثيرة في هذا الخصوص، ولعله لم يتوقف يوماً على أن يكون إشكالياً، ولنا في مقاله الهجائي الأخير لرئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني مثال على إصراره على النقد والجدل رغم بلوغه السابعة والثمانين من العمر.

يبدأ فيلم «عماء» من الإشارة الضوئية، من سائق يهبط عليه العمى من حيث لا يدري، وأحد المارة يساعده على قيادة سيارته ومن ثم يسرقها.

من هنا ينتشر الوباء وتتسع الدائرة: سارق السيارة، زوجة صاحب السيارة التي تصطحبه إلى طبيب العيون (ماركو رافلو) وجميع من يجري لهم هذا الطبيب فحوصاته، ففي اليوم التالي يتضح كل شيء، تصاب كل شخصية على حدة، وفي تواقيت متفاوتة، والناجية الوحيدة من هذا المصير هي زوجة طبيب العيون (جوليان مور) التي ستبقى كذلك حتى نهاية الفيلم.

تلك هي الحلقة الرئيسة من المصابين بهذا الوباء العجيب، التي سنتعقب مصيرها إلى النهاية، حيث يرى المصاب أمامه صفحة بيضاء عكس العتمة التي تسكن عيون العميان، ولدى انتشار تلك الظاهرة يجري الحجر عليهم، بمن فيهم زوجة الطبيب التي ترافق زوجها، وعليه تكون المبصرة الوحيدة وكل من حولها عميان.

تتأسس مقولات الفيلم على تصوير البشرية إن حل بها ما حل بالفيلم، وينغمس في إضاءة أصل العلاقات الاجتماعية، في ردها تحت وطأة الوباء إلى البدائية المتأصلة في الإنسان، التي يكفي أن تختل إحدى وظائفه ليعود إليها، هذا عدا أن العماء الذي يحل على الإنسان يكون كفيلاً بالإخلال بتلبيته احتياجاته الرئيسة كما وطّن نفسه عليها.

مع تزايد أعداد المصابين في الحجر الصحي الذي يوضعون فيه تحت حراسة مشددة، ستعود البشرية إلى نشأتها، وتطورها المبني على الملكية والعبودية، وهذا ما يجسده امتلاك أحد المصابين مسدس فيمسي السيد ومن حوله عبيد، حيث يحتكر الطعام ويصير على الآخرين أن يقدموا له كل ما لديهم من أجل أن ينالوا حصتهم، إلى أن تقوم زوجة الطبيب بقتله كونها المبصرة الوحيدة، في رمزية لها أن تحتمل تأويلاً متمثلاً بأن كل من رفض الاستعباد كان مبصراً، ومن ثم تأتي الثورة على الديكتاتور المقتول وزمرته ولتكتشف زوجة الطبيب أن الحراس قد ذهبوا وأن الأبواب لم تعد مقفلة، ولتكتشف بعد خروجها من الحجر أن العمى قد أصاب جميع البشر، والمدينة صارت مدينة أشباح لا تبصر.

الفيلم مسكون بالأبيض، مضافاً إليه المرايا وما ينعكس على سطحها، ولعل عناصر المفاجأة في الفيلم تأتي دائماً من اللقطة واللعب على لون العماء الأبيض، ويبنى التشويق من دون انعطافات حادة، بل على أساس تعقب ما تؤول إليه البشرية إن أصيبت بهكذا وباء.

تويتر