«شكّ» يدفع إلى يقين

يمكن للشك أن يصبح يقيناً، متى كان المرء وفياً له، وراح يبني الوقائع على أساسه، وله أن يقود أيضاً إلى تحويل كل ما في متناول اليد إلى دليل على صحة ذلك الشك وصوابه، ولعل ذلك يلخصه المثل الشعبي «ما من دخان دون نار».

من هنا، تبدأ إشكالية فيلم Doubt «شك» ،2008 ولعل كونه حاملاً هذا العنوان سيجعله وفياً للشك حتى آخر لحظة، إلى درجة تدفع المشاهد نفسه إلى الشك في ما يشاهد من أحداث ووقائع، طالما أنها مبنية على افتراضات، لا يتم الجزم بصحتها أو عدمها.

الفيلم الذي أخرجه وكتبه جون شينلي عن مسرحية كتبها هو أيضاً، وسبق تقديمها على مسارح برودواي، يحمل مفارقة لافتة، تتمثل في أن هذا الشك يتحرك في مساحة يُفترض أنها لا تحتكم إلا إلى الإيمان، وهي الكنيسة الكاثوليكية ومدرسة تعليمية في برونكس نيويورك، والصراع الرئيس في الفيلم سيكون بين الراهبة أليونز «ميرل ستريب» التي تكون مديرة المدرسة والكاهن برندان «فيليب سيمور هوفمان» المختلفين في كل شيء.

يبدأ الفيلم من خطبة الكاهن التي يحدد من خلالها الفترة الزمنية للفيلم، وتأتي بعد اغتيال الرئيس جون كيندي، الحدث الذي فتح الباب على مصراعيه أمام شك الناس في أنفسهم، أو انعدام اليقين حسب ما يورد، لكنه سرعان ما يقول إن الشك يمتلك القدرة للتحول إلى يقين.

هذه البداية سرعان ما تتضح أو تتجسد طوال الفيلم، نمضي بين صفوف المدرسة، نتعرف إلى شخصية أليونز الصارمة، التي لا تعرف تضحك، والتي تقف ضد الزمن، تريده ثابتاً لا يتغير، تمنع الطلاب أن يستعملوا أقلام الحبر الجاف في اتباع لقناعتها بأن سهولة الأشياء تفضي إلى كوارث قادمة لا محالة. طبعاً هذا مثال من أمثلة كثيرة عن قناعاتها المتحجرة والصارمة التي يخشاها التلامذة، بينما ترزح تحت سلطتها وتأثيرها جاميس «آمي آدامز» الراهبة ومعلمة التاريخ الرقيقة، ذات الشخصية المضطربة والمعرضة للانهيار في أية لحظة.

الكاهن براندن يقف على طرف النقيض من الأخت أليونز، يسعى جاهداً لأن يكون عصرياً، ومحباً، ومتناغماً مع تقدم المجتمع وتطوره، الصدام بينهما سرعان ما يحصل، لكن تحت راية الشك، والذي تنطلق شرارته، بمجرد أن تتلفظ جاميس أمام أوليز بأنها تشك في أن الكاهن قد يكون تحرش جنسياً بطالب من طلابها اسمه دونالد، وهو الطالب الزنجي الوحيد في مدرسة جميع طلابها من أصول إيطالية وأيرلندية.

ومن هنا، تبدأ لعبة الفيلم الرئيسة إن صحت الكلمة، كون كل ما سنشاهده سيكون مدعاة للشك ـ لا أعرف كم مرة تكررت هذه الكلمة ـ كون أليونز ستبني كل شيء على افتراضات، واضعة نصب عينيها أن تبعد الكاهن عن منصبه، والذي تنجح به من دون أن نعرف حقيقة إن كان الكاهن قد أقدم على أي فعل شائن مع دونالد، وحين تهدده بماضيه الذي تقول إنها عرفته، ما يجبره على الاستقالة من منصبه، تعترف لجاميس بأنها لا تعرف شيئاً عنه، لا بل إن الأمر أشد تعقيداً، خصوصا بعد حديثها مع أم دونالد، والتي تقول عن ابنها بما يوحي بأنه «مثلي»، وأن هذا من أسباب ضرب والده الدائم له، بعد أن تدهش أليونز بعدم اهتمامها إن كان يتحرش به أم لا، فالمهم بالنسبة لها تمكنه من الدراسة في جامعة جيدة، ولا سبيل لتحقق ذلك إلا في بقائه في المدرسة نفسها.

زيادة في تعقيد الأمر، فإن الكاهن ولدى استقالته بعدما فضحته أليونز لدى المطران، فإنه يعين في منصب أعلى من الذي كان فيه، لا بل إن أليونز نفسها في نهاية الفيلم تقول لجانيس إنها صارت تشك أيضاً، من دون أن نعرف ما الذي تشك فيه، ربما من صوابها أو بما اتهمت به الكاهن، لن نعرف، الأمر متروك معلقاً. ويمكن إضافة أنواع أخرى من الشك إليها في أن تصل الخمسة أوسكارات التي رشح لها ولم ينل واحدة منها.

نهاية.. نعود ونكرر أن الفيلم وفيّ لعنوانه تماماً، وأقوى ما فيه الحوار، ولعل كونه مأخوذاً عن مسرحية سبب كاف لذلك، فالمسرح فن الحوار.

تويتر