«ليس بعد».. موت تقاومه الطفــــــــولة
إن كنت لا تخاف من العتمة، فأنت تعاني من خلل ما! كيف لا، وأنت لا ترى في العتمة أشكالاً وأشباحاً لها أن تكون من بنات خيالك، أو تحت وطأة تهيؤات لك أن تكون مسكوناً بها.. المخيلة من تقودك إلى الخوف من العتمة، بما يجعلها دليلاً على إبداعك.
يخاف البروفيسور يوهيدا «تاتسو ماتسومورا» من العتمة، هو من يقول ذلك في فيلم Madadyo (ليس بعد) ،1993 وليمسي أيضاً عنوان الفيلم لأزمة متكررة فيه، تقول إن «حياته مازالت مستمرة والموت لم يأت بعد، (ليس بعد) وسيقول، الأمر مؤجل لا أكثر ولا أقل، كون الموت قادماً لا محالة».
هذا ما قاله أيضاً المخرج الياباني أكيرا كوروساوا «1910 - 1998» في آخر فيلم أخرجه قبل وفاته، ولعل كل ما حمله فيلم «ليس بعد» يقول لنا إننا في صدد رجل ينتظر الموت، لكنه لا يتوقف عن الحياة أبداً، يدرك أن شبحه مخيم عليه، من دون أن يعيقه ذلك، بما يجعله، أي الفيلم، أجمل ما يمكن أن يقوله مبدع في ختام أعماله، خصوصاً إن كان بحجم كوروساوا الذي أضاف إلى رصيد السينما العالمية روائع بقيت راسخة في الذهن، وهل من أحد وقع في غرام السينما لا يتذكر «راشموند» و«الساموراي السبعة» و«ران»، وغيرها من الأفلام التي لم يتوقف عن كتابتها وإخراجها طوال 60 سنة من السينما.
لا يحدث الكثير في الفيلم، نحن أمام البروفيسور، وهو يعلن لطلابه أنه سيستقيل من التعليم ويتفرغ تماماً لتأليف الكتب، وعليه، نتابع حياته البسيطة وهو محاط بطلابه وهم لا يفارقونه، وقد أصبح لكل منهم عمله واختصاصه في الحياة العملية.
يسهرون في بيته، يتبادلون معه الحكمة والأنخاب والطعام، والحرب العالمية الثانية مندلعة، ولتطال الغارات بيته، فنجده يسكن وزوجته في بيت بالكاد يتسع لهما، لا يقيهما برد الشتاء ولا حر الصيف، لكنهما سعيدان كما هما دائماً، وكذلك طلابه الذين لا يفارقونه، ويفعلون المستحيل ليجدوا له بيتاً جديداً يليق به، وهذا ما يحدث، لا بل إنهم يشترون الأرض التي بجوار بيته، لئلا يسكنها أحد قد يعكر صفوه.
حياة البروفيسور مملوءة بالحكمة والنكتة، يمكن لأي شيء أن يتحول معه إلى سخرية، تحمل الكثير من العمق، إنه «كنز وطني»، وعليه يتم، وفق القوانين والأعراف اليابانية، الاحتفال بعيد ميلاده كما لو أنه مناسبة وطنية.
يجتمع طلابه ويتذكرون، كلٌ على طريقته، ما تعلموه من البروفسور، ومن ثم ينتقلون إلى الغناء والرقص، ولترد عبارة «ليس بعد» في كلمة البروفيسور، لم يأت الموت بعد، حتى عندما يمثل طلابه كيف سيأتيه الموت افتراضياً، ولا حتى عندما يصل إلى ،77 ويمسي جسده ضعيفاً واهناً، ويقع من طوله، ثم ينهض ويقول «ليس بعد».
للفيلم أن يمضي خلف هواجس الأيام الأخيرة لرجل مثل البروفيسور، إنه مسكون بشخصيته التي لم تفارق الطفولة، بما يجعل الفيلم يمضي مطولاً خلف أحزانه، هو وزوجته على قط يضيع منهما، وتعقب لجوئهما إلى كل ما في مقدورهما لاستعادته، ومعهما بالتأكيد الطلاب المسكونون بالخوف على معلمهم من أن يصيبه شيء من جراء حزنه الشديد على ذلك القط الذي يختفي.
إنه طفل عجوز في أواخر العمر، لم يأت دوره في الموت، ومازال هناك كثيرون ممن يشكل بقاؤهم على قيد الحياة أهم شيء في حياتهم. إنه نفسه الطفل الذي نشاهده في الحلم آخر الفيلم، وهو يهرب من قافلة تمر أعلى تلة، وهم ينادون عليه، لكي يلتحق بهم، وهو يصرخ «ليس بعد»، ويواري نفسه تحت القش لئلا تأخذه قافلة الموت في طريقها.