«إننا محكومون بالأمل».. سينما على خشبة المسرح
«كيف يخافون الحب، وهو أجمل شيء في الحياة؟ لأن الأرواح الفقيرة لا تبحث عن الجمال بل عن النظام»، من هذه العبارة المأخوذة من مسرحية «بلاد أضيق من الحب»، يبدأ فيلم «إننا محكومون بالأمل»، ولعل هذا العنوان سيحيلنا مباشرة إلى الكاتب السوري الراحل سعد الله ونّوس، ليصير الحديث هنا عن توثيق سينمائي جديد لحياته، وفعل جمالي استعادي يقدمه المخرج العراقي الألماني قيس الزبيدي عبر شريط فرغ منه أخيراً، من إنتاج شركة «الليث للإنتاج المرئي والمسموع»، حيث يحكم فيه قبضته حول عوالم هذا المسرحي، في تمازج بين مادة أرشيفية خاصة وشهادات لمن كانوا حول ونوس، ستتبع على الدوام بتجسيد مسرحي أو سينمائي أو فوتوغرافي.
إن كانت السينما التسجيلية فن إعادة بناء الواقع، فإن الزبيدي يعيد البناء بما يشكل واقع ونوس الجمالي، ويمنح خشبة المسرح فعلاً مجاوراً لحياته، وعلى قدر متوازٍ ومتداخل، لا لشيء، إلا لأن المسرح هو حياة ونوس، والعكس صحيح.
يتعقب قيس الزبيدي حياة سعد الله ونوس، بعد أن فعل ذلك مع الرسام جبر علوان العام الماضي، في فيلم «جبر ألوان» الذي نال الجائزة الأولى في الدورة الثانية من مهرجان الخليج السينمائي. ولعل غواية أن تمضي السينما خلف فنون أخرى سيمنح للوثائقي فرصة جمالية، تجعله استثماراً إبداعياً في تلك الفنون، عدا استثنائية الشخوص، كما هو ونوس الذي يبدأ الفيلم من قريته «حصين البحر» على الساحل السوري، وطلبة في طريقهم إلى المدرسة، فإذا بنا نسمع شهادة مدرس ونوس متري عرنوق، وهو يتحدث عنه طالباً مميزاً، ومن ثم أخته التي تروي كيف كانت تعذبه الأمور التي لا يكتشفها، بينما تخبرنا أمه عن رسائل كان يرسلها إليها من القاهرة وباريس.
لن يشعر مشاهد الفيلم بأنه في صدد تسلسل زمني صارم لحياة ونوس، فباريس لن يكمل فيها ونوس دراسته، لأن نكسة 67 تكون قد وقعت، كما سيقول لنا المخرج السوري عمر أميرلاي، وهو يروي رؤيته المشتركة معه، وكيف فكرا بمقاربة المواطن السوري، كون الهزيمة لم تكن بسبب قوة إسرائيل، بل لضعفنا، وهكذا تولدت فكرة مجموعة أفلام عن الحياة اليومية في قرية ومن ثم معمل ومدرسة وغيرها، فكان «الحياة اليومية في قرية سورية». ولعل النكسة ستعود وتظهر بوصفها نقطة مفصلية في حياة ونوس، وهو يتحدث في فيلم أميرالاي، «وهناك أشياء كثيرة، كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، حين بدت تماماً أنها النهاية بالنسبة لونوس.
سنكون دائماً في فيلم ضمن فيلم، ومسرحية داخل فيلم، فمع الحديث عن «رأس المملوك جابر» واحتفاء الجمهور الألماني بها، سنشاهد مقطعاً من فيلم «المغامرة» المأخوذ عن المسرحية، وليتبع بها مجسدة على الخشبة، ومعها أيضاً مشاهد خاصة لونّوس في لايبزغ، وبالتأكيد، لن يغيب برتولد بريخت، وتأثر ونوس به طالما أننا في ألمانيا.
سيحضر الشخصي عبر سرد زوجته فايزة شاويش، وتحديداً في فترة مرضه، وفي بُعد معرفي ونقدي في الفيلم، فإن الممثل غسان مسعود سيتحدث عن شراكة سعد الله ونوس مع فواز الساجر، ويقول إن تقديس ونوس النص المسرحي فهم بطريقة خاطئة، وأنه أبدا لم يكن يعتبره صياغة نهائية لا تتأثر بالبروفة والعرض. طبعاً، هكذا كلام لا يترك من دون أن يحضر مشهد من «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة»، ومعها لقطة لمسعود في الكواليس.
سيحضر آخرون، سنتجول بين لوحات أحمد معلا وتحيته لونّوس، وهو يقرأ عما دفعه لهذه التجربة، سنشاهد ملصق «طقوس الإشارات والتحولات» سيتكلم ابن قريته الروائي حيدر حيدر، وستكون مقاربة ماري إلياس أكاديمية بامتياز، وليكون الكلام دائماً موجزاً ومكثفاً لا يترك من دون سند، وهو الصورة التي تتكلم بإسهاب.
يروي قيس الزبيدي عن علاقته بونّوس بعيداً عن الفيلم، قائلاً: تعرفت إليه بشكل عابر في ألمانيا، حينما كنت أكمل دراستي، وكنت أتابع أول نشاط مسرحي واسع لما سمّي «حوار بريخت»، وكان سعدالله قد غادر إلى برلين، عن طريق شريف خزندار الذي أخرج في هذه المناسبة مسرحية «الاستثناء والقاعدة» في مسرح «البرلينر انسامبل».
ويضيف مخرج «اليازرلي» «وقتها، وبسبب إعجابي الشديد ببريخت وبآرائه الجمالية، شاهدت أغلب مسرحياته، ورحت أتعرف إليه وعلى مسرحه أكثر فأكثر. في دمشق، عملت في المؤسسة العامة للسينما، وحينها شاهدت مسرحية «حفلة سمر»، وتناقشت حولها مع سعد الله واكتشفت اقترابه من بريخت، وانطلاقه في تقويم مسرحيته منه».
ويتذكر الزبيدي صاحب التجربة المديدة في الفن السابع قائلاً «على الرغم من نجاح المسرحية الهائل، كان عند سعد الله ونوس تساؤلات عن طبيعة النجاح ومصدره: أهو نوعية وأهمية المسرحية الدرامية؟ أم موضوعها؟ أي النكسة التي كانت تجذب الناس إلى مشاهدة المسرحية».
تصلح نهاية الفيلم كمثال نسرده للتدليل على الآلية التي اتبعها الزبيدي في سرده البصري، فبعد كلمة ونوس الشهيرة في «يوم المسرح العالمي»، نشاهد لقطة من مسرحية «أبو خليل القباني»، ثم شموعا مضاءة، فقبر سعد الله ونوس، بعدئذ طاولته وقد حملت نظاراته، وإلى جانبها كرسيه الهزاز فارغاً، ولقطة للبحر من بين نباتات الصبار، لقطة لأم سعدالله، مشهد لغروب الشمس، بعد أن بدأ الفيلم بإشراقها، ولنعود مجدداً إلى غرفته وصورته، بينما يطالعنا صوت ونوس يقول على Answering Machine «هنا بيت سعدالله ونوس، نأسف لعدم وجود من يرد على الهاتف، نرجو أن تتركوا رسالة، بعد سماع الإشارة وشكراً».
يشكل سعدالله ونوس بالنسبة لقيس الزبيدي رمزاً لجيل النكسة، والمثقف الذي آمن بالتغيير، وكشف ضعف إيمانه بمن يقود إلى التغيير. ومن الجدير ذكره أن الزبيدي قام بمونتاج فيلم «الحياة اليومية لقرية سورية»، وأشارك في كتابة ومونتاج «المغامرة» المأخوذ عن «رأس المملوك جابر»، ولم يعجب سعد الله بالفيلم.