زنابق درويش البيضاء وبحار إبسن الزرقاء
لم تكن إلا خمس شاشات حملت مشهدية ملتقطة بالتزامن، بينما الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش يظهر ثم يمضي، يمضي ثم يظهر، وهو يردد قصيدة للكاتب النرويجي هنريك إبسن، ثم قصيدته «جندي يحلم بالزنابق البيضاء».
لم يكن درويش هذه المرة في أمسية شعرية، وما من جمهور ماضٍ مع كلماته وصوته العميق، يتنقل معه من صورة إلى أخرى وهو يتعقب قصائده، وقد اتفقا مسبقا ـ الجمهور ودرويش ـ على أن الجمال الوسيلة الوحيدة لمقاومة القبح، المنتج الأكثر حضوراً في هذا العالم المترامي، وفي تحالف وثيق مع عدو اسرائيلي لا يعرف غيره، مهما تلونت الأقنعة وتنوعت الادعاءات التجميلية.
موعدنا مع محمود درويش كان بصرياً، له أن يطفو من خمس شاشات في «سيني ستار» عجمان، ونحن نشاهد فيلم «هوية الروح» للمخرج النرويجي توماس هوغ، الذي عرض مساء الخميس الماضي، بمبادرة من دائرة الثقافة والإعلام في عجمان، واستدعى الأمر بالتأكيد صالة ممتلئة تماماً، لن تكون الفنون البصرية دافع الحضور الأول، بل درويش نفسه، وعلى شيء من الانحياز للشعر، لشعر درويش، لا بل لمشاهدته في استجابة لاشتياقات يمليها موته.
الفيلم الذي يتبع مشهدية خاصة لها أن تنتمي إلى «الفيديو آرت»، يتبع ما نسمعه من دون أن يفسره، وهذه إحدى فضائله الكثيرة، هناك ما يمنحنا لقطات متوالية ومتناغمة في استثمار لتداخل الشاشات واستكمالها بعضها البعض، وأحياناً تنقل الصورة بينها على شيء من استكمالها على خمس مراحل.
لكن، وقبل المضي مع الفيلم، علينا المرور على ما يحيط به، إذ كان هذا المشروع الذي لم يشاهده محمود درويش بعد الانتهاء منه على شيء من محاولة لوضع قصيدتين في سياق واحد ينتصر للحياة، كما كل فن، وعلى شيء من فعل مجاورة بين إبسن ودرويش، وفتح الباب واسعاً - إن شئنا- أمام ملتقيات كثيرة بين القصيدتين، وعلى شيء من حرية مطلقة ربما في مقاربة المشاهد لما يراه، وحسب زاوية رؤيته الخاصة، وليكون الفيلم الذي زار مدناً عربية وأوروبية، من بينها إمارة عجمان، حاملاً نسخاً متعددة من بينها نسخة إنجليزية قدمت فيها الممثلة فينسا ردريغيف قصيدة إبسن، كما أن أحاديث كثيرة للمخرج هوغ مضت باتجاه سعادته الكبيرة في شراكته درويش في هذا العمل، وحزنه على عدم تمكن درويش من حضور عرضه الأول في رام الله، لا بل إنه يروي صعوبة إقناع درويش بالوقوف لساعات طويلة أمام الكاميرا، وذهابه وطاقم عمله إلى رام الله بعد تعثر مجيء درويش إلى لندن، لأسباب صحية.
توصيف العمل بالفيلم له أن يكون في المساحة البصرية التي يتيحها، وعدا ذلك، هو أقرب لحوارية بصرية شعرية، وقد يضاف إليها الموسيقى، ولعل الفعل الدرامي فيه سيكون من نسج الكلمات واللقطات، فقصيدة إبسن «تيري فيجن» التي كتبها عام 1861 لها أن تمنحنا معبَراً إلى شعر قصصي، وتجسيد شعري لحياة فيجن بوصفها مجازاً، وحاملاً لتصارع حقيقي بين السلام والانتقام، بين رجل كل ما يسعى إليه هو تحصيل ما يسد رمقه وعائلته، واصطدامه بـ15 رجلاً مصرين على قتل مسعاه في ذلك، إنه ضابط إنجليزي ورجاله يقومون بإغراق قاربه، ويمنعونه من العودة إلى زوجته وابنه وتأمين ما يحميهما من الموت جوعاً، وكل ما يحمله في قاربه «ثلاثة دنان من القمح»، ولو ترك له إيصالها لاستطاعت عائلته مواصلة الحياة، وليكون مصيره السجن الطويل، وحين يعود إلى قريته يكون قد فقد كل شيء، ماتت عائلته، لكن ومع دراما القصيدة المتصاعدة، يتاح لتيري فيجن الانتقام، يقع اللورد الإنجليزي الذي بدد حياته تحت رحمته، وقد صار فيجن مرشداً للسفن، نسمع بصوت محمود درويش:
حين ذاك صرخ اللورد أنظر القاع يميل تحت أرجلنا أو ينحدر
ابتسم المرشد
لا تخف ها هنا غرق قارب محمل بثلاثة دنان من الشعير في القاع نفسه الذي يحملنا الآن
للتو غمرت بالرعب وجه اللورد ذكرى فعلته المنسية
تذكر الآن فقط ذلك الذي طلب منه الرأفة راكعاً على متن زورقه
وهنا صرخ تيري فيجن: كان كل مصيري بين يديك لكنك فرطت فيه باسم الشرف والمجد
لحظة واحدة وأكون قد انتقمت منك..
اللقطات المترافقة مع قصيدة إبسن «أبو الدراما الحديثة» يكون بحرياً، ثمة نورس يحوم في السماء، هناك منارة، ومن ثم صور لسفن شراعية، وحين يحل الخطر فالماء دائماً يتسرب إلى قارب أو ما يوحي بأنه قارب. وبالانتقال إلى قصيدة محمود درويش يمسي المشهد صحراوياً، رتل طويل من البشر ينتظر في صحراء مترامية الأطراف، مرتدٍ السواد، ولعل الشعر سيكون درامياً من السطر الأول، سيكون علينا تعقب ما سيكون عليه ذلك الجندي الذي يحلم بالزنابق البيضاء، والذي يبحث عن حياة طبيعية، لا مكان فيها للقتل، بل لفنجان قهوة في الصباح وحنان أم، بينما الصور لا تتغير، البؤس على حاله، تفتت البشر، انفلات ما يصل بينهم من شريط أحمر طويل:
«يحلم قال لي بطائر
بزهر ليمون
ولم يفلسف حلمه، لم يفهم الأشياء إلا كما يحسها، يشمها
يفهم ـ قال لي ـ إن الوطن أن أحتسي قهوة أمي
أن أعود في المساء
سألته: والأرض؟
قال: لا أعرفها، ولا أحس أنها جلدي ونبضي كما يقال في القصائد
وفجأة رأيتها كما أرى الحانوت والشوارع والجرائد..
بين انتقام تيري فيجن الذي يحجم عنه مناصراً الحياة بسلام على أي خيار آخر، وذاك الجندي الذي يحلم فقط بالزنابق البيضاء، هناك ما يمكن البناء عليه، وفق مطالب حياة إنسانية، سرعان ما يظهر عدو لها ويخمدها، انتقام فيجن لن يلحق به إلى لعنة أن يكون مثل جلاده، بينما الجندي يحلم بالزنابق البيضاء. وكلما حلم أكثر اتسع الكابوس؛ كابوس القتل الذي مازال يمارسه حتى هذه اللحظة.