«عازف منفرد».. عبقرية أن تكون وحيــداً
يمسك الهوس أحياناً بحياة الإنسان إلى حد الجنون، ويقوده إلى مساحات ما كان لها أن تكون في وارد ما رسمت عليه تلك الحياة، فالموهبة تستدعي وفاء كاملاً وتفانيا يجعل من الحياة مفرغة من أي معنى إن تم تغييبها، كل ذلك له أن يحدث على خط فاصل رفيع بين الجنون والعبقرية، الخيط الذي تم استثماره مراراً في أفلام لا عد ولا حصر لها.
فيلم The Soloist «عازف منفرد» الذي عُرض محلياً في الأسابيع الماضية، وكان على شيء من مقاربة عالم عازف متشرد اسمه ناثنيال آير «جيمي فوكس» يعيش متنقلاً من مكان إلى آخر جاراً عربة تسوق مملوءة بحاجاته، متوسداً أي رصيف يتيح له مساحة للنوم، الأمر الذي نقاربه من خلال شخصية الصحافي ستيف لوبيز «روبرت دوناي» الذي يتعرف إلى ناثنيال صدفة حين يبادله هوسه ببتهوفن، ليعود ويراه يعزف على آلة لها أن تشبه الكمان كونها مهترئة ولا تحوي أكثر من ثلاثة أوتار ويكتب عنه في عموده الصحافي اليومي، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء علاقة خاصة بينهما، ستكون مفتوحة أمام استعادة حياة ناثنيال وما أوصله إلى تشرده، بالتزامن مع مساعي لوبيز إلى توفير ما يليق بعبقريته الموسيقية. قبل المضي خلف الفيلم وما حمله الذي بقي إلى النهاية ملتبساً، فإنه من الضروري الإشارة إلى مخرجه جو رايت الذي يقدم في هذا الفيلم ثالث أعماله الروائية بعد أن عرفناه في Atonement «تعويض» ،2007 المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب البريطاني ايان ماكوين بينما قدم في فيلم سابق رواية جين أوستن الشهيرة Pride & prejudice (كبرياء وتحامل) 2005 ولينقل مع فيلم «عازف منفرد» كتاب ستيف لوبيز الصحافي في جريدة «لوس أنجلوس تايمز» مع التأكيد أنه يظهر في الفيلم كما صور نفسه في كتابه بفارق بسيط أنه في حياته الواقعية مازال متزوجاً بينما نعثر عليه في الفيلم منفصلاً عن زوجته، ما يقودنا إلى تأكيد أن شخصية ناثنيال هي أيضاً حقيقة ومازالت على قيد الحياة لا بل تمت دعوته لمشاهدة أعمال تصوير الفيلم الذي جرى قسم منه في مأوى متشردين شهير في لوس أنجلوس كان يلجأ إليه، إضافة لكون كل المتشردين في الفيلم ليسوا ممثلين بل هم حقيقة كذلك في حياتهم الواقعية.
يمضي «عازف منفرد» خلف جنون ناثنيال دون أن يغوص به، بمعنى أن الفصام الذي يعيشه يبدو عنواناً لما عاشه في الماضي، ونمضي مع حالة «البارانويا» أو الرهاب من كل ما حوله بوصفها حالة منتهية لا تتضح منابعها، ولا نعرف إن كان هوسه بالموسيقى سببا له أو أن عبقريته في العزف قادته إلى ذلك، علينا أن نوافق على ذلك من دون أن يكون السرد مهتماً بإقناعنا. تشابك العلاقة بين الصحافي والموسيقي المتشرد سرعان ما تدفع الأخير إلى اعتباره من «الآلهة»، خصوصا بعد أن يقدم له «تشيلو» (الآلة الأثيرة على قلبه التي تتكثف فيها موهبته) والتي تكون تقدمة من قارئة لعمود لوبيز الصحافي، وعليه تتعقد العلاقة ويمسي ناثنيال محور حياة لوبيز، وكل ما يسعى إليه هو تغيير حياته ونقله إلى ما يستحقه ويليق بعبقريته، لكن لا بد من مآزق، لا بد من أن يكون تدافع جمل ناثنيال على قدر مدهش من الجنون، لابد له أيضاً أن يمضي في ضرب لوبيز حين يشعر بأنه يحكم حصاره عليه ويغير حياته. الهوس الذي بدأنا به لنا أن نجده من ناحية أخرى، تشكل نقطة ارتكاز أخرى للفيلم ألا وهي انغماس الصحافي في موضوعه وتحول ما يفترض أنه خبر أو مقال إلى تورط كامل بمن يتناوله، ونقل ما يقاربه كتابياً إلى مهمة إنسانية وهدف سام، ورهان لن يقبل أن يخسره ونحن نشاهد كيف يتدخل لوبيز في حياة العازف المنفرد ليكون هو المستمع المنفرد الذي يتوق أن يسمعه الجميع ويتعرفوا إلى عبقريته المغيبة جراء ظروف نفسية شديدة الوطأة جعلته يخاف مما يحيط به، إنه عازف منفرد لأنه يخاف الفرقة الموسيقية، لا يريد المشاركة، بل يرغب في أن يكون فعله منفرداً لا يتخطاه.