«الطين والزجاج».. تشكيل مسرحي ينتصر لـ«الهوية»

الدائرة تهدف إلى تطبيق قوانين شفافة ونشر المعرفة العقارية.                 تصوير: تشاندرا بالان

لم تحظ مسرحية تم عرضها خلال الدورة الحالية لمهرجان دبي لمسرح الشباب المنعقد حالياً بندوة الثقافة والعلوم، بما يشبه الإجماع النقدي والجماهيري على الإشادة بها، مثل ما حظيت به مسرحية «الطين والزجاج» للمخرج الشاب حمد عبدالرزاق، الذي استعان بنص للكاتبة فاطمة المزروعي ونحو 10 ممثلين بينهم ثلاثة في أدوار رئيسة هم ناجي جمعة ورائد الدالاتي وإلهام محمد، فيما كان الإشراف العام للدكتور محمد يوسف.

واستكمل حمد خطه الإبداعي الملتزم بقضايا وطنية الذي بدأه في مسرحيته الأولى «الستارة» التي عُرضت في دورة المهرجان الماضية وفازت بجائزة أفضل إخراج مناصفة، ليتحول من مناقشة التركيبة السكانية، إلى الغوص في تحديات التمسك بالهوية، والوقوف في وجه محاولات التغريب المتتالية، عبر عمل قربه الشديد بمشهديته إلى جماليات العمل التشكيلي المتقن، تمكن فيه حمد من طرح حلول مهمة لعدد من الإشكاليات التي واجهته على المسرح مثل الالتزام بوقت محدد قصير نسبياً للعرض، وتبديل المشاهد دونما الاستعانة بفكرة الفصول المتعددة، وعدم تحمل زمن العرض المختزل لمزيد من الأدوار الرئيسة، مستعيناً في عرضه على أكثر من مستوى بمفردات للطبيعة المحلية على نحو خلق انسجاماً بين الدلالة الإيحائية للعنوان، ومحتوى العمل.

إشكالية زمن العرض الذي يخضع ربما لتعليمات تنظيمية خاصة بجدول فعاليات المهرجان لجأ حمد للتغلب عليها إلى اختزال النص الأصلي، الذي كان بحاجة إلى زمن مضاعف على أقل تقدير، من دون ان يخل بجوهر العمل الذي اطلعت عليه «الإمارات اليوم» نصاً، وأوصت عبر إدارتها للندوة التطبيقية للوقوف عنده من أجل الوقوف عند مدى توفيق المخرج الشاب في القيام بعمليتي التكثيف الدرامي واختزال المشاهد، وهو امر ربما يكون حاسماً في ما يتعلق بجائزة أفضل إخراج بشكل خاص.

سلاسة إخراجية

وعبر حركات موظفة في العرض للممثلين انفسهم وبشكل خاص بالنسبة للمجاميع، كانت ثاني حلول المخرج لاستبدال مشاهده من دون الحاجة إلى إيقاف العرض وإسدال الستار عبر تقسيمات فصلية، وحتى أولئك الذين كانوا يدفعون بتقسيمات خشبية يقف عليها الممثلون الرئيسون، قاموا بذلك على نحو منسجم في الحركة مع الفعل المسرحي، بحيث أن المشهد يتغير من جلسة في منزل، إلى أخرى في المقهى مثلاً، في ثوانٍ معدودة لا تتقاطر مع تطور الحدث على الخشبة أو تقلل من سرعة تطوره، بل تتوازى معه وتدعمه.

ثالث أبرز الحلول التي قدمها المخرج الشاب في مهارة تتفوق على مرحلته العمرية العشرينية كانت في إسناد أكثر من دور لممثل وحيد، حيث أسند للممثلة إلهام دورين وأيضاً لرائد الدالاتي دورين، تنقل كل منهما عبرهما بسلاسة شديدة، من دون الحاجة إلى الاستعانة بمزيد من الاكسسوارات لإقناع المشاهد بأن هناك تغيراً، بل كان التعويل هنا على مهارة الممثل نفسه في التنوع والتبدل الجسدي والنفسي، لاسيما أن تلك الأدوار الثنائية كانت شديدة الأهمية في تطور الحدث على الرغم من قصر مساحتها زمنياً، وهو أمر بكل تأكيد مثل تحدياً للمخرج أثناء بحثه عن ممثل مُجيد يقبل تلك المساحة شديدة الاختزال .

انطلاقة المسرحية بالكثير من الرموز التراثية والتمهيد للدخول في صراع ثنائي بين المتمسكين بالهوية الوطنية، ومحاولي تغييبها بحجة الحداثة أدى لدخول المتلقين عنصراً فاعلاً منذ اللحظة الأولى لبدء المسرحية عبر موجة حارة من التصفيق، لتكون البداية موحية بالكثير من المعادلات المقلوبة عبر طرح رجل وامرأة غريبين، على رجل أسمر البشرة جالس في بيته الطيني وبيده تشكيلات طينية لسؤال موحٍ هو: «ما اسمك»؟، ليرد صاحب المنزل باستغراب: تدخل داري من دون استئذان لتسألني ما اسمك؟ ليجيب الرجل بعدها بصيغة لا مبالاة: سمني ما شئت.. سمني طيناً، وعلى النقيض يختار الغريبان لنفسيهما لقب زجاج، في إشارة إلى أنهما من اختارا الدخول في صراع مع صاحب الدار وليس العكس.

وعلى الرغم من المعالجات المتكررة للقضية ذاتها في أعمال مسرحية كثيرة، إلا أن حمد تمكن من إيصال رؤية إخراجية مختلفة، ناسجاً الكثير من التفاصيل الموحية التي تُصهر في سياق رغبة «زجاج» الذي أُطلق هنا على الرجل الغريب (رائد الدالاتي) والمرأة التي تصاحبه (إلهام) في امتلاك بيت «طين» (ناجي جمعة)، من أجل هدمه وتحويله إلى برج كبير، مقابل وعود بمنح طين شقة سكنية حديثة، وسعادة سعى في إيهامه بامتلاكها في حال التخلي عن بيته الطيني.

مؤثرات صوتية

المؤثرات الصوتية كانت أحد أوجه التميز الإخراجي لحمد من خلال اتكائه الكامل على أصوات من صنع مفردات الطبيعة، من استخدام سعف النخيل إلى خشبها، والدفوف المصنوعة من جلود الماشية وحتى في حال الشذوذ عن تلك القاعدة كان يتم الاستعانة بأدواد من وحي بيئة أسرة «طين» البسيطة مثل صفيحة متهالكة أو قالب خشبي قديم.

الإضاءة أيضاً لعبت دوراً رئيساً في تطور الحدث، وغمس المتلقي في سياقه لتتحول من مرافقة للتداعيات والتقلبات النفسية للشخوص، إلى كاشفة وفاضحة لهواجس نفسية دارت في كثير من الأحيان باحثة عن مكاسب مادية منخدعة بأحلام التمدن في حال التنصل من رائحة الطين الذي يمثل في هذا السياق جانب الأصالة، باستثناء الشخصية الرئيسة «طين» الذي هو العائل الوحيد لأسرة تتطلع إلى مسايرة موجة التمدن ما يجعلها تشكل ضغطاً هائلاً عليه من أجل القبول بعرض «زجاج».

على الرغم من ذلك فإن الرؤية الإخراجية لم تدفع كما يوحي السياق السابق بالمطلق باتجاه التمسك بالقديم لمجرد قدمه، أو الرفض المطلق لكل ما هو عصري، بل كانت المعادلة المتزنة تظهر دائماً على لسان طين الذي يبدي من دون الانزلاق في الإشكاليات السردية والخطابية ترحيبه بالآخر والاستفادة من خبراته الإيجابية بشرط ألا يمثل ذلك طمثاً لمعالمه الأصيلة أو قطعاً لجذور تربطه بأجداد وآباء ورثوا له هذا المنزل الطيني. بقي أن نُشير إلى أن الإيحاءات الكوميدية في العمل كانت واحدة من الملامح التي لم تتسق مع الجو النفسي للعمل، وأضفت تشويشاً غير مبرر على شخصية «طين» الذي ظل مأزوماً على مدار الأحداث ، وأن النص المسرحي الذي صاغته فاطمة المزروعي ينم عن موهبة ناعمة جديدة تدخل مجال الكتابة للمسرح للمرة الأولى تستحق الشد على أيديها من أجل المداومة على فعل الكتابة للمسرح الذي هو بحاجة بالفعل لنصوص أنثوية من المؤكد أنها ستحمل ملامح مختلفة عن تلك التي يكتبها الرجال بشكل أو بآخر، وإن كان الهم الذي عالجته المزروعي في «الطين والزجاج» يبقى واحداً لدى الجنسين.

 
موهبة إخراجية

 على الرغم من حرص كاتب هذه السطور على تغييب إعجابه النقدي بنضج تجربة حمد عبدالرزاق، أثناء تقديمه الندوة التطبيقية التي تلت العرض، إلا أن مسار معظم المداخلات اتجهت في سياق الإشادة بقدرات وحلول المخرج الشاب، وتهنئة مسرح الشارقة الوطني بل والوسط المسرحي الإماراتي بأسره على تلك الموهبة الإخراجية التي خرجت من رحم مهرجان دبي لمسرح الشباب.

مسرحيون أعلام مثل رئيس لجنة المشاهدة الفنان القدير حسن رجب، ورئيس المهرجان عمر غباش، وعضو لجنة تحكيم المهرجان في دورته السابقة بلال عبدالله، ومشرف العمل الافتتاحي مرعي الحليان، وأيضاً شباب ينافسون بشكل دائم على جوائز المهرجان مثل نواف جناحي وطلال محمود وحسن يوسف، بالإضافة إلى إعلاميين يقومون بتغطية المهرجان أجمعوا أن «الطين والزجاج» فعلاً كانت عملاً مسرحياً ناضجاً أثرى المهرجان، ومنح أملاً كبيراً بأن الهواية والمعالجة السريعة ليست قرينة للعمل المسرحي الشبابي الذي بإمكانــه أن يتمتع بمختلف تقاليد المسرح المحترف، موصين في الوقت ذاته بإعادة عرضه مستفيداً من المداخلات النقدية الثرية التي حفلت بها الندوة التطبيقية.

يشار إلى أن عرض اليوم الأحد هو لمسرحية (المسرحية) لمسرح الشباب للفنون، تعقبها ندوة تطبيقية يديرها الزميل ظافر جلود.
تويتر