يوسف شاهين.. «هاملت الإسكندرية»
لابد للموت أن يأتي في النهاية، وإن كان انتظاره يمتد لأكثر من 30 سنة، إلى درجة تدفع إلى افتراض أن ذلك الذي انتظر ذلك الموت وقد جاءه سيقول «زعلانين ليه.. ما أنا والموت نتصارع منذ ثلاثين سنة»، هكذا عبارة ستوضع افتراضاً على لسان المخرج المصري الراحل يوسف شاهين في كتاب صدر أخسراً عن دار الشروق في القاهرة بعنوان «يوسف شاهين.. نظرة الطفل وقبضة المتمرد»، للناقد اللبناني إبراهيم العريس، حيث جاء بحثاً توثيقاً لحياة ومنجزات هذا المخرج المفصلي على أكثر من 300 صفحة.
مقدمة الكتاب ستكون تأسيساً لما يشكله يوسف شاهين مصرياً وعربيا وعالمياً، وكيف لمخرج أن يمسي شاغل الناس، وكيف للموت كلما اقترب منه أن يدفع الملايين إلى وضع أيديهم على قلوبهم، إلى أن جاء من جهة القلب.
بعيداً عن الموت، يمضي العريس منذ الصفحات الأولى من الكتاب إلى التأكيد على تباين أفلام شاهين، على اختلافاتها وتنقلاتها، مؤكداً أن شاهين كان بالنسبة إليه الفنان والناقد الصديق «عودنا دائماً أن نكون صادقين معه، ومن هنا، حين نقول له مثلاً إن (الآخر) لم يقنعنا، وإن النصف الثاني من (هي فوضى) أشبه بفيلم هندي متهافت، وإن بعض ما في (سكوت حنصور) ليس شاهنياً، لا يزعل.. بل يتذكر تماماً أن من يقول له ذلك، هو نفسه من يدافع عن (اسكندرية/ نيويورك)، ومن حمل (المصير) راية عالية للسينما العربية هو نفسه الذي اختار (الأرض) و(باب الحديد) و(وعودة الابن الضال) ثلاثة من أعظم 20 فيلماً في تاريخ السينما العربية».
هذا التقديم أو التوطئة سننتقل منها إلى سرد سريع لحياة شاهين التي لا يدعها الكتاب تبتعد أبداً عن أفلامه. وبكلمات أخرى نقتطفها من الكتاب «سيرة يوسف شاهين لا تنفصل عن سيرة سينماه»، هو الذي لم يعمل شيئاً خارج السينما، وعليه فإن الكتاب وحين يحدثنا عن عائلة شاهين فإنه يجد في أفرادها ما يقابلها في أفلام ألبير جوزيف شاهين (اسم المخرج الأصلي) مع التأكيد على اسكندرانيته، على الرغم من أصول والده الدمشقية المرتبطة بعائلة «صويا» المعروفة في المشرق العربي، إضافة إلى أصول أمه اليونانية، لكن، يبقى الكتاب بعيداً عن توضيح أشياء كثيرة تروى بعبارات ملتبسة، مثلما هو الحال مع نظرة شاهين إلى أمه «الحسناء الصغيرة» التي «تبدلت نهائياً وقد نزعت عنها هالة قداسة ما.. شاهين لن يقول ما حدث»، بينما يجزم العريس بأن العنصريين المكونين ليوسف شاهين كانا «بحر الاسكندرية ومسرح خيال الظل الذي كانت جدته تصطحبه إليه وهو طفل».
لم يكن في وارد يوسف شاهين أن يكون مخرجاً، كان يتوق إلى التمثيل، أن يمسي نجماً على الطريقة الهوليوودية، مع هوسه بالمسرح والشكسبيري تحديداً، إنه هاملت الذي بقي هوسه، وقد مات وماتت معه رغبته في إخراج فيلم بعنوان «هاملت الاسكندرية».
درس شاهين التمثيل في أميركا، وعاد إلى مصر عام 1947 وبدا له بمقايس ذلك العصر أنه من المستحيل أن يصبح نجماً لأمر متعلق بالوسامة وما إلى هنالك، أو كما يقول شاهين «كنت نحيلاً جداً.. ولي أنف طوله ستة أمتار، وأذنان كبيرتان إلى درجة غير معقولة»، لكنه ولم يكن قد تجاوز الواحدة والعشرين من عمره عمل مساعد مخرج مع جياني فرنوتشي، ليحدث خلاف بين الأخير ومنتج الفيلم، ترك فرنوتشي العمل على أثره، وما كان من المنتج إلا أن طلب من الشاب شاهين العائد من هوليوود أن يكمل العمل، لكن شاهين رفض قائلاً في الوقت نفسه إنه مستعد لتحقيق فيلم خاص به، وليكون ذلك الفيلم هو «بابا أمين»، مع نهايات عقد الأربعينات وليتبعه بـ «ابن النيل»، وهما مقتبسان من أعمال مسرحية أميركية حوّلها إلى أفلام مصرية خالصة، إن صحت الكلمة.
يغطي الكتاب نواحي كثيرة في سينما شاهين، ويمضي في تعقب لأفلامه يقسمها إلى مراحل لعناوين الفصول أن تحمل دلالتها مثل «اختلاط الأنواع»، «في قلب الكوميديا الموسيقية»، «عالم الميلودرما الكئيب»، «عالم الايدلوجيا والقضايا»، و«داخل الذات المشاكسة»، إذ نكون في صدد «فيلموغرافيا» محمّلة بكل انعطافات صاحب «الأرض» والتغيرات والظروف التي أملت ما أملت عليه، علاقته بثورة الضباط الأحرار، ومن ثم فترة حكم الرئيس أنو السادات، وكل ذلك في بحث عن أثر ذلك على أفلامه، إضافة إلى مصادره التمويلية لأفلامه التي لم يكن يجد أي عناء في توفيرها، لا بل في توفيره لأفلام مخرجين شباب كان يؤمن بموهبتهم وقدراتهم.
الكتاب ونستعير هنا من مقدمته «بداية لسجال متجدد دائماً حول سينما يوسف شاهين، سجال لا نعتقد أن عليه أن يكتمل أبداً. لأن الفن الكبير هو الذي لا يتوقف الحديث عنه، وفن يوسف شاهين فن كبير».