اشتباك بين الإنسان ووطنه

«لان».. الصين بعيني طفلة صغيرة. من المصدر

تمتزج السيرة الشخصية بسيرة وطن، والعكس صحيح، هذا بديهي، ولعل البحث عن نقاط اشتباك بين الإنسان ووطنه سيكون في حياته اليومية أولاً، في عيشه وما يطاله، وليكون ما سنعرض له من أفلام يقدمها مهرجان دبي السينمائي هذا العام أكثر من مجرد اشتباك، بل ما يتخطاه إلى القتل والمجازر والتحولات التاريخية الكبرى.

ستكون بدايتنا مع فيلم عراقي مشارك في مسابقة المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة، وهو «ضربة بداية» للمخرج شوكت كوركي، والذي يتخذ من ملعب تحول إلى مخيم للاجئين مساحة لمقاربة المأساة العراقية، واجداً في لعبة كرة القدم مجازاً قد يختزل الكثير مما يعصف بوطنه، ومحولاً لها إلى نقطة التقاء وافتراق وتفجع واختزال.

فنحن، ومن بداية الفيلم، سنكون أمام القبر ومراسم الدفن وما يرافقها، ومن ثم سينتقل الفيلم إلى فتى صغير مبتورة رجله، ويرتدي سترة رياضية مكتوب عليها «زيدان» نسبة إلى لاعب كرة القدم الشهير.

سرعان ما تنقلب هذه السودواية إلى نبش لحياة سكان المخيم «الملعب»، وفي مقدمتهم آسو وصديقه البدين واللطيف، وهما على إصرارهما على حياة سعيدة، تجد في كرة القدم أداة لتحقيقها، سواء من خلال تمكنهما من نقل مباراة المنتخب العراقي مع السعودي على شاشة تعلق على المرمى، أو من خلال حلمهما بتنظيم بطولة كروية بين أطفال المخيم، فهذا هو الفريق العربي وذاك الكردي وآخر الآشوري، إضافة إلى إصرار آسو على الحصول على الصحف اليومية والكتب من البائع الذي يأتي بسيارته كل يوم.

يترافق ذلك مع حب آسو البريء جارته هيلن، حيث يتلعثم ولا يصارحها به، ومن ثم النهاية المأساوية التي تكون في انتظاره لدى ذهابه لشراء كأس يتوج به الفائز في لعبة الفريق العربي مع الفريق الكردي.

في ما تقدم استعراض سريع لما يحمله فيلم كوركي، وبالإمكان التوقف طويلاً عند مفردات مستثمرة بعناية، لتقديم احتفالية بالحياة، يقف كل شيء ضدها، ومخيم محاصر بالموت من كل الجهات، وأمام هذا الإصرار، تمسي ضربة البداية على شيء من النهاية التي لا تميز بين عربي وكردي، فهناك من يركل بلداً بالإرهاب، ولا يدع لكرة القدم أن تستقر في هدف.

«شو صار»
المجاز الكروي في فيلم شوكت كوركي، وتقديم ما يكثف معاناة وطن، من خلال مصير آسو الطيب، يقابله نبش شخصي في مأساة ليست بعيدة عن مأساة وطن بأكمله اسمه لبنان، في فيلم ديغول عيد «شو صار» المشارك في مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية، والذي يعود بالمخرج نفسه من مهجره إلى لبنان، بهدف توثيق مجزرة طالت عائلته في أثناء الحرب الأهلية، وليكون الفيلم مملوءاً بالصدمات التي تأتي أولاً من أن كل ما نشاهده حدث حقاً، بل إن المخرج نفسه هو الضحية الكبرى، وقد فقد والديه وعاش تفاصيل تلك المجزرة، ورأى بأم عينيه ما يرويه.

هنا سننسى مع ديغول عيد مآسي الأوطان، وسنبقى مسمرين أمام مأساة المخرج الشخصية، على الرغم من كونها من صنيع وطنه وحربه الأهلية، سيأخذ بنا إلى سرد مفجع بدموعه، هو وإخوته وأقربائه عن ما حل بآل عيد على يد آل دياب، في قريته قرب طرابلس التي هجروا منها.

لا أحد يفكر في الانتقام سيقول لنا الفيلم، النسيان هو الحل بعد مرور أكثر من 30 سنة على وقوع المجزرة، ما من قضاء ليطال أحداً من مرتكبيها بعد العفو عن جرائم الحرب الأهلية، ما من محاكمة إلا باستخدام الكاميرا وقانونها الذي ينبش ما يغيب، ونحن نتحدث هنا عن مقتل 12 فرداً من عائلة عيد، وفي التفاصيل التي تروى عن كيفية وقوع تلك المجزرة ما يدمي ويبكي، خصوصا رواية المخرج نفسه وهو يروي كيف اختبأ في الحمام مع أخيه، وكيف كان القتلة ينادون على أبيه، والذي ما إن خرج حتى تلقته رصاصة.

وفي ملمح آخر، يسعى الفيلم إلى تقديم دوافع القتلة بارتكاب ما ارتكبوه، والذي يبدو انتقاماً من شخص كتائبي من عائلة عيد اسمه إيلي، قام بقتل أخوين من آل دياب، والتي تنتمي (أي عائلة دياب) إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي، الأمر الذي ينفيه إيلي، مع أن للكاميرا ما تقوله أيضاً في مسألة نفيه.. ربما!

وستكون نهاية الفيلم بتوجه المخرج إلى قريته التي خلت من أي فرد من أفراد عائلته منذ وقوع المجزرة، حيث يضع الكاميرا ثابتة في مواجهة قاتل أمه، ويقول له «ما بتتذكرني أنت اللي قتلت أمي»، ومن ثم يوصد باب بيت أهله المهجور والمتآكل، من دون أن نعرف إن كانت المجزرة باباً وأوصد.

«لان»
وستمضي آلام السؤال عن «شو صار» بنا إلى الصين، وفيلم المخرجة نلي جيانغ «لان» المشارك في مسابقة المهر الآسيوي الإفريقي، والذي يضيء برقة مفرطة حياة فتاة صغيرة لا تتجاوز السنوات الست، تعيش مع جدها الذي أصبحت معلقة به كذيل حسب تعبيرها، وقد أجبر والديها على العمل في الصحراء في أثناء الثورة الثقافية التي أطلقها ماو تسي تونغ، وليكون هذا الفيلم الذي ينتمي إلى السيرة الذاتية، معبراً إلى التحول التاريخي الأكبر الذي شهدته الصين، وذلك عبر تعقب حياة الفتاة، والتي ستكون في النهاية طفلة الثورة الثقافية.

علاقة الفتاة بجدها ستكون احتفالية حقيقية بالتفاصيل اليومية التي تروي كل شيء، كيف يعد لها جدها الطعام ويمشط شعرها ويوصلها إلى المدرسة، وصولاً إلى العقاب الذي يطالها كلما اقترفت ذنبا، وبكائها، وهي تحضر المسطرة التي يضربها بها على كفها، ومن ثم ممارستها كل ما يقوم به جدها معها على دميتها، إضافة لحلمها بأن تصبح لاعبة جمباز، بينما تشهد قصة حب تعيشها جارتها الأكبر منها عمراً.

كل ما تقدم يملي علينا حساسية عالية، ونحن نرى الصين بعيني طفلة، مع تحالف ذلك مع الذاكرة، وتسخير كل شيء لخدمة تقديم حياة بريئة كاملة، والسؤال المتردد: ما الذي سيحل بالفتاة إن ألم شيء بجدها، وهو يصور غياب والديها بأنه البطولة بعينها؟ الإجابة في الفيلم الذي يترقرق مثل النهر الذي تقول لان على ضفـته «والداي في الشمال وأنا في الجنوب وما يفصـل بينـنا هذا النـهر».
تويتر