«زنديق».. وطنــي فنــــــــدق ولست نزيلاً
لا يقودنا فيلم «زنديق» الفائز بجائزة «المهر العربي» للأفلام الروائية الطويلة في الدورة السادسة لمهرجان دبي السينمائي، إلا إلى «الكفر» بكل شيء، وفي اتباع لحالة «زندقة» لها أن تطال نواحي عدة، تبدأ بالوطن ولا تنتهي فيه، بل تعود في الزمن إلى التاريخ بما يمليه حاضر مؤرق ومرتبك وغائم.
فيلم الفلسطيني ميشيل خليفي يأتي مما تقدم، وهو مأخوذ تماما بجردة حساب تطال كل شيء، نتعقب المخرج «ميم» ـ شخصية الفيلم الرئيسة التي يجسدها محمد بكري ـ عائداً إلى فلسطين وفي نيته تصوير فيلم، يوثق من خلاله شهادات من عاصروا نكبة ،1948 الأمر الذي يمنحنا عودة إلى منشأ العذابات وأصلها، ولتتداخل هذه العودة مع مآزق المخرج «ميم» الراهنة، وهو يتورط من حيث لا يدري في خلاف عائلي، يتمثل في إقدام أحد أفراد عائلته على قتل فرد من عائلة أخرى، وهبوب الأخيرة نحو الثأر، وليكون ممنوعاً على «ميم» دخول الناصرة، والتي تكون مسكونة بالخوف والقتل والترصد، وتقديم كل ذلك في مشاهد ليلية، تتناغم مع الحالة التي يريد خليفي تقديمها بخصوص بلدته.
هذا النبذ للمخرج سيكون عاماً، ومع تشرده وبحثه عن فندق يؤويه في ليلته السوداء تلك، يمضي الفيلم إلى مستويات أخرى تطمح إلى تقديم مجازات تختزل حال فلسطين، فهذا فندق مملوء بالجنود الاسرائيليين، وجميع الفنادق مملوءة بالسكارى وأصحاب السلطة، وعندما يمضي «ميم» إلى فندق لم يمض على إنشائه أيام يرفض صاحبه المتواري وباتصال هاتفي أن يقدم له غرفة واحدة على الرغم من خلو الفندق، لعل هذا الضياع الذي سيغرق فيه المخرج «ميم» سيدفعه للجوء إلى بيت أهله، ومعه مفتاح قديم سرعان ما يفتح بابه، لكن هذا البيت أيضاً سيكون محتلاً من قبل اللصوص والمجرمين وتجار الأعضاء البشرية، كما أن رمزية كون هذا البيت هو المأوى الوحيد، سرعان ما يقتص منه صاحب «عرس الجليل»، ويمضي المخرج «ميم» في حرق صور أهله، ومن ثم يبصق في البئر وهو يقول ساخراً «من البئر جئت»، في إحالة إلى الشاعر الراحل محمود درويش، الأمر الذي يقودني إلى ابتكار سطر له أن يلخص الحالة التي نتابعها مع ضياع المخرج «ميم» في محاكاة لسطر درويش الشهير «وطني ليس حقيبة وأنت لست بمسافر»، وليمسي هذا السطر في فيلم «زنديق»، «وطني فندق وأنا لست بنزيل».
الفيلم محتشد بشتى أنواع المقولات التي تجتمع على نزق المخرج، وتحول كل الأحلام إلى كوابيس، كما أن علينا التنقل معه في غراميات لها أن تكون في واحدة منها بين المخرج «ميم» وامرأة إسرائيلية، تقول له «أول مرة أتذوق فيها طعم فم فلسطيني». وليجيبها بسخرية «وهل طعمه مختلف؟».
السواد سيكون طاغياً، والأرض التي يرصدها خليفي مدعاة للعودة إلى ،48 بوصفها ذاكرة يستعيدها من خلال لقطات من أفلامه، بينما الراهن يعاني من شتى أنواع الاحتلالات الأهلية والوطنية والاسرائيلية، فالطفل الذي يقع عليه المخرج «ميم» ـ الحرف الأول من ميشيل ـ يكون والده مسجونا في سجون «حماس» كما يخبره، وبالكاد يترك له أن يكون بمثابة مساحة أمل، أو خيط أمل واه وهو يعلمه التصوير، وعندما يمضي بنا الفيلم إلى لقطته الختامية فإنه يضعنا أمام امرأة تبقى مهيمنة على مخيلة المخرج والتي جسدتها ميرنا عوض. لقطة ختامية أمام البحر، للمرأة أن تشكل خلاصاً ما، لكنه أي المخرج المشتبك مع الواقع يكون قد أنهكها بخياناته، لا بل إن خلاص سرعان ما يغرق في البحر، كما سنشاهد في اللقطة الأخيرة.
يدعونا فيلم «زنديق» إلى التركيز على نقاط اشتباك الشخصي بالعام، الشخصي بالتاريخي، وفي انتصار للشخصي على ما عداه، دون أن نكون في وارد رثاء وطن، بل أمام وطن لا يدفع إلا إلى الزندقة، وهو يتحول إلى أرض رافضة، لا مكان فيها لعيش آمن، مخاطرها معقدة، ويمكن، لتنوعها، أن تمنح للفيلم مبدأ تداعي الأفكار، وترتيب المقولات وفق الواقع المرصود، واقع كافر، ماض احتفظ أهله به، وماتوا ولم يعد يتمكن من العثور على قبريهما، ولعل هذا دافعه في أن يصور فيلمه الوثائقي، وليسود في النهاية الراهن بوصفه لا يطاق، والماضي منبع عذابات، والمستقبل الذي ربما لا مكان له إلا عبر كاميرا في يدي طفل.