«يوم غائـم».. أوجـاع ومسرّات مصريّة

«يوم غائم».. سياحة روائية في أزمنة وأمكنة عدة.

متسلّحاً بوعي مبدع يحترم التاريخ، ولكن لا يقدسه، سطّر الكاتب المصري الدكتور محمد المنسي قنديل روايته «يوم غائم في البر الغربي»، التي ارتحل فيها بين أزمنة وأمكنة عدة، ليتسمّع لصدى أوجاع ومسرات مصرية حدثت في مطلع القرن الـ،20 في أزمنة بعيدة، تحديداً ما قبل الميلاد بـ14 قرناً في عصر أخناتون، ذلك الملك الشاعر المتمرد على كهنة وسدنة العرش الفرعوني، الذي اغتيل بعد أن شعر بهموم شعبه.

ويصطحب المنسي قنديل قارئ رواية «يوم غائم» المرشحة في القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية التي ستعلن نتيجتها النهائية في الثاني من مارس المقبل بأبوظبي، في رحلة بطول مصر وعرضها تقريباً، فمن نجع في قلب الصعيد، إلى محافظة أسيوط، ثم إلى تل العمارنة الأثري ومقابر بني حسن في المنيا، وبعدها إلى حواري وأسبلة السيدة زينب وقصر الدوبارة في القاهرة، وتكون النهاية في طيبة (الأقصر)، حيث البر الغربي الذي يغص بكنوز وادي الملوك، والآثار المصرية القديمة.

بين التاريخ والفن

جمع الكاتب في روايته (571 صفحة) بين شخصيات تاريخية بأسمائها الحقيقية (مصطفى كامل، وعبدالرحمن الرافعي، ومحمود مختار، ومحمد فريد، وكارتر، وكرومر، وأخناتون، ونفرتيتي، وتوت غنخ آمون، وغيرهم)، وأخرى متخيلة، لعل أهمها بطلة الرواية عائشة، تلك الجميلة، التي حملت أبعاداً رمزية، أحبها كثيرون لجمالها و«كنوزها»، واعتدى عليها اقرب الناس إليها، ولم تذق السعادة الحقيقية سوى مع مبدع مصري جسّد فنه تراث بلده، وحاول استنهاض عزيمة أبنائه، وهو المثّال محمود مختار صاحب تمثال نهضة مصر.

واللافت هو أن المنسي قنديل تعامل مع الشخصيات الواقعية بجسارة روائي يوقن بأن وراء المؤرخ فجوات كثيرة، لأن الأخير معني في الأساس بالحقائق، وبما لديه من وثائق عن حياة شخصية ما، بينما الفنان مشغول بالتفاصيل الإنسانية والمشاعر الوجدانية والتأمل في أعماق تلك الشخصية نفسها. ولذا استطاع صاحب «يوم غائم» أن يكسو شخصياته بأحاسيس جديدة، قد لا تتماهى بشكل كامل مع مرجعياتها التاريخية، لكنها في النهاية رؤية فنان لا موثّق تاريخياً، ويتجلى ذلك - على سبيل المثال - مع شخصية المكتشف الأثري هوارد كارتر، فمن يطالع الرواية يتعاطف مع كارتر، ويلمس إنسانيته، ويستشعر بأنه أكثر مصرية من بعض المصريين، فهو العاشق لآثار ذلك البلد، الذائد عن كنوزه، رغم أنه توجد مصادر تاريخية تتهم كارتر بأنه شوّه المقابر التي اكتشفها، وسرق كثيراً من محتوياتها، وقبل كل ذلك كان مجرد باحث عن مجد شخصي، لا تهمه مصلحة مصر من قريب أو من بعيد.

أما عن لغة الرواية فإنها تشع ببريق خاص، متمم لمتعة سرد المنسي قنديل، ومعمار حكاياته في «يوم غائم في البر الغربي»، فالكاتب على مستوى المفردة ينتخبها بعناية شديدة، ويحرص على انتقاء ألفاظ عربية ذات بهاء خاص، أما على مستوى الجمل فإنه يؤثر في الغالب القصيرة منها، كأن في قلمه ميزاناً يزن تراكيبه، ويعد كلماته كي لا تزيد على حد معين، ما أحال اللغة في كثير من صفحات الرواية إلى قصائد سردية، وتراتيل عشق، خصوصاً حين يفيض الوجد والحنين بالكاتب لمكان مصري ما.

مفتتح درامي

بمشهد درامي عالي التركيز تنطلق أحداث الرواية، فالاستهلال يكون مع أم تجرجر ابنتها ليلاً وسط أحراش نيلية، هرباً من عم (وزوج أم في الوقت نفسه) استباح جسد الصغيرة، حيث اهتدى عقل الام إلى حيلة تضمن بها حماية وعيشة أفضل لعائشة (ابنة الـ13)، حيث تلحقها بمدرسة راهبات بعد أن دقت صليباً كبيراً على ذراعها، ووشمت لها اسماً جديداً.

تتعلم عائشة التي صارت ماري، في بيئة مختلفة، وتنمو وسط ابناء طبقة مخملية، برعاية راهبات أدرن للحياة ظهورهن، ونذرن أنفسهن للخير، تمضي بها الحياة حاملة سرها الخاص، وتتوطد علاقة مودة بينها وبين الأخت الراهبة مارغريت، خصوصاً بعد أن كادت الأخيرة تموت، لولا بستاني المدرسة (رزق) الذي أنقذها من الغرق إثر فيضان للنيل، وتنتهي حكاية رزق ومارغريت بصورة مأساوية، إذ يعتقل البستاني ويسحل في شوارع بلدته أسيوط، بعد اكتشاف علاقته بالراهبة الأميركية التي هامت به واعتبرته «يسوعها المخلص».

تطرد ماري من المدرسة، وتنتقل إلى قصر إحدى صديقاتها، وتتعرف خلال حفلة أقامها والد صديقتها اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني إلى هوارد كارتر، بطل الرواية المحوري الذي فتن بعائشة، ورآها أميرة فرعونية تشبه مليكات المعابد القديمة التي يرسم محتوياتها.

تفصل الرواية سيرة كارتر ونشأته، وقسوة الحياة التي عاشتها عائلته وأبوه رسام الحيوانات المتجول، وكيفية تعلق كارتر بعلم المصريات، ووقوعه في أسر فنونها القديمة منذ أول مرة شاهد بعض تحفها في منزل ثري بريطاني، وقصة مجيئه إلى مصر كرسام آثار.

عوالم جديدة

تحط عائشة رحالها في قصر الدوبارة بالقاهرة مترجمة لزوجة كرومر (سفاح مذبحة دنشواي)، تتفتح عيناها على عوالم جديدة، وتجد نفسها بلا عمل بعد أن ملت زوجة اللورد المكوث في مصر وعودتها إلى إنجلترا. تنتقل الفتاة المصرية لتعمل مترجمة في جريدة اللواء، وتقترب من الزعيم مصطفى كامل، والمؤرخ عبدالرحمن الرافعي، والفنان محمود مختار. تجتذب شخصية الأخير عائشة بعد استردادها اسمها القديم وجزءاً من حريتها المسلوبة، يعدها الفنان بالزواج، لكنه يدخل السجن إثر محاولته حماية حبيبته خلال تظاهرة ضد الاحتلال الانجليزي، وعندما يخرج يجد نفسه مفصولاً من مدرسة الفنون التي كانت تشكل حلماً كبيراً له، يحطم بعدها تماثيله، ويرحل إلى فرنسا تاركاً عائشة لتكمل رحلة البحث عن الحياة والحرية وحدها.

يظهر العم، ذلك الوغد القديم، مدعياً ان أم عائشة تريد توديعها قبل موتها، تهرع الشابة الجميلة إلى رؤية أمها لكنها تفاجأ بأنها قد رحلت بالفعل منذ سنين، وأن الأمر كله مكيدة من عمها الذي اعتدى عليها لأيام طويلة حتى أحالها إلى مسخ بشري وشخصية أخرى تستعذب عذابها، إلى أن تنقذها الذئاب - بقدرة المؤلف - من عمها المغتصب.

تعود عائشة إلى القاهرة حاملة جنيناً في داخلها، وتلجأ إلى امرأة تعمل في «وش البركة» (بيت دعارة) لتخلصها من عبء حملها، وبعدها تستقر في ذلك البيت إلى أن تلاقي كارتر، فيحدثها عن سنوات عمله ومكتشفاته وحلمه بالعثور على مقبرة الملك أخناتون، يعرض عليها مرافقته إلى البر الغربي في الأقصر، لأنه يعدها بمثابة تعويذته الفرعونية التي ستفتح له كل مغاليق المقابر الأثرية، وبالفعل تنقاد عائشة لرغبة كارتر.

تتداخل الأزمنة في الرواية، وتنتقل الحكاية إلى حياة اخناتون، وصراعه ضد الكهنة، ومحاولته تأسيس دين جديد، وسياحته بعد فراره من أعدائه في طيبة في بر مصر، واختلاطه بالفلاحين وابناء الشعب الحقيقيين الغائبين عن بصر الحكام وسدنة العرش الفرعوني، يرجع بعد رحلة طويلة إلى زوجته نفرتيتي حاملاً معه توت الذي عثر عليه قبل عودته إلى مدينته، يحاول تنصيبه فرعوناً وتزويجه من إحدى بناته، وتغتال الخيانة اخناتون، وكذلك من بعده توت غنخ أمون.

يفشل كارتر في العثور على مقبرة أخناتون، يمسح وادي الملوك، وينقب في أكثر من مكان، ولا يهتدي للكنز إلا بعد إشارة من عائشة، عندها ظهرت كنوز مقبرة بكر لم تمس، لكنها كانت للفرعون الشاب توت بكل ما تحمله من «أشياء رائعة».

طب وأدب رحلات سينما

محمد المنسي قنديل قاص وروائي مصري، ولد عام 1949 في مدينة المحلة الكبرى، حصل على بكالوريوس الطب ومارس المهنة لبعض الوقت قبل أن يتفرغ تماماً للكتابة، عمل في مجلة العربي الكويتية لمدة 17 عاماً، وأتاحت له المجلة التطواف كسندباد في مدن شتى حول العالم، ما ساعد على إثراء تجربته الإبداعية، وجعله يمتع جمهور «العربي» كل شهر بفصل راقٍ من أدب الرحلات.

حصل المنسي وهو مازال طالباً على الجائزة الأولى من نادي القصة، وحصد جائزة الدولة التشجيعية للآداب في عام ،1988 وفازت روايته «قمر على سمرقند» بجائزة ساويرس عام ،2006 ووصف الناقد صلاح فضل «يوم غائم» بأنها «رواية العام الكبرى دون منازع.. ومرشحة لأن تصبح إحدى روائع السرد العربي المعاصر»، بينما قال القاص المصري محمد المخزنجي عن صاحب «يوم غائم»: «محمد المنسي قنديل صاحب واحد من أعذب الأساليب العربية وأنصعها».

من أبرز أعمال المنسي قنديل «احتضار قط عجوز»، و«بيع نفس بشرية» و«آدم من طين» و«عشاء برفقة عائشة» مجموعات قصصية، و«انكسار الروح» رواية، وكتب «شخصيات حية من الأغاني» و«وقائع عربية» و«تفاصيل الشجن في وقائع الزمن». بالاضافة إلى عدد من الأعمال السينمائية منها «فتاة من إسرائيل»، و«آيس كريم في جليم».

تويتر