فرح بهلوي.. من «عرش الطاووس» إلى المنافي
..وكأنه كان لابد أن يسقط «عرش الطاووس» لتكتمل هالة فرح بهلوي الأسطورية، وتدخل حكاية «بطلة»، غنية بالأحداث أصلاً، في ذروة درامية، عنوانها الارتحال بين المنافي، والانتقال من مطار إلى آخر، برفقة شاه يعاني السرطان، بحثاً عن موطن آمن، وقبر بعد ذلك، لـ«عزيز قوم ذل».
انتقلت فرح ديبا، بين يوم وليلة، من مجرد طالبة هندسة إلى إمبراطورة، بعد اقترانها بالشاه محمد رضا بهلوي، تتعقب لفتاتها الصحافة العالمية، ويحصي أنفاسها من اعتبروها إحدى أميرات القصص الخيالية، ابنة الطبقة الوسطى التي أصبحت «سيدة القصر»، ومع ذلك حافظت على عفويتها، وكرهت الجانب البروتوكولي، فخالطت البسطاء، واستمعت إلى هموم المحرومين والايتام، وتناولت الغداء وسط مجذومين نفر منهم حتى أهلهم، وتبنت مشروعات خيرية واجتماعية، ورعت، تلك الفارسية التي تحفظ عن ظهر قلب أشعار الفردوسي والشيرازي والخيام، حركة فنية وثقافية في بلدها.
تروي فرح تفاصيل ذلك وغيره في كتابها «فرح بهلوي.. مذكرات» الذي صدرت طبعته العربية أخيراً عن دار الشروق المصرية، من ترجمة إكرام يوسف، في 399 صفحة.
بداية من النهاية
تبدأ مذكرات «الشاهبانو» التي صدرت باللغة الفرنسية في عام ،2003 بمقدمة تتحدث فيها عن مشاهد من يوم الرحيل عن إيران، بعد تصاعد الثورة، واشتعال طهران بأسلحة الفتاوى وأشرطة الخميني، وإيثار الشاه الابتعاد «المؤقت» حقناً لدماء شعبه، تروي فرح ذلك في مقدمة المذكرات قائلة «عندما أتذكر ذلك الصباح من يناير ،1979 يعاودني إحساس الحزن الموجع نفسه بكل حدّته، كانت طهران تعاني هجوماً ضارياً منذ شهور، لكن صمتاً متوتراً يخيم الآن على المدينة كما لو أن عاصمة بلدنا تحبس أنفاسها فجأة، اليوم الـ16 من الشهر، ونحن على وشك مغادرة بلدنا، بعدما ارتأينا ان انسحاب الشاه مؤقتاً ربما يساعد على تهدئة العصيان المسلح».
وتصور فرح أطياف الأسى التي بدت على زوجها في ذلك اليوم العصيب، ومشاعر شاه «مريض» يتهاوى عن عرش ظل محتفظاً به 37 عاماً، مشيرة إلى أنها لم تكن تعتقد أن تلك هي النهاية، وأنهم سيعودون حتماً بعد أن تهدأ الأمور، وتعالج الحكومة الجديدة أمر الثورة، ولكن لم يحدث ذلك، وبينما كان الشاه يغادر وأسرته على متن طائرة، كانت أخرى في باريس تستعد لتُقل الخميني إلى إيران بعد نحو 14 عاماً قضاها في منافيه، ولتبدأ معه مرحلة جديدة في تاريخ ذلك البلد.
وتسترجع فرح في القسم الأول من كتابها ذكريات الطفولة (ولدت عام 1938 في شمال طهران)، وتفصّل كيف كان والدها ــ صهراب ديبا الذي ينتمي إلى أسرة مرموقة ويعمل عسكرياً في الجيش ــ يحوطها بحب خاص، لاسيما أنها ابنته الوحيدة، وكيف ألحقها بمدرسة ايطالية تدرس الفرنسية بها، وقصة موته بعد مرضه لشهور قلائل، وإخفاء أمها الأمر عليها لأنها كانت صغيرة، تقول فرح عن ذلك «لم يكن والدي ميتاً بالنسبة لي فعلياً، لأنني لم أبلغ برحيله، ولم أذهب لزيارة قبره.. حطت على كياني حالة من السوداوية، خلفتها مشاعر الخواء والترقب اللانهائي، فقد وقع ما لا يحتمل من دون أن أستطيع ذرف دمعة. أعلم اليوم أن الناس يزورون قبره سراً، ويعتنون به، ويضعون الزهور هناك، وكانوا من الحكمة بحيث أزالوا الاسم (ديبا) حتى لا يتعرض للانتهاك».
دافع الكتابة
كانت آخر سطور مذكّرات فرح بهلوي بمثابة تفسير للدافع إلى نشر الكتاب عقب حوار بين الجدة فرح وحفيدتيها نور وإيمان (ابنتا رضا محمد رضا بهلوي) «تقولين إننا إيرانيون، وتخبرينا بأننا أميرتان، لكننا لا نعرف بلدنا حتى. ما هي فائدة إطلاعنا على كل هذه الصور الفوتوغرافية، وسرد كل هذه القصص علينا، إذا لم نكن نستطيع العودة إلى الوطن. ربما كان تعليقهما هو ما أمدني بالقوة لكتابة هذا الكتاب. كان علي أن أخبر هاتين الصغيرتين المحرومتين من بلدهما كيف حدث كل هذا. أن أحاول أن أشرح لهما كيف كان التاريخ قاسياً على عمتهما ليلى، وظالماً لجدهما الذي تريان وجهه الجاد الصامت يومياً على مكتب والدهما، وأن أخبرهما أنهما تستطيعان أن تفخرا بأنهما حفيدتاه، وأن تفخرا بأنهما ابنتا رجل يكافح كي تستعيد إيران الازدهار والمكانة اللذين تمتعت بهما ذات يوم، أن أقول لهما، في الواقع، إنهما تستطيعان الفخر بكونهما إيرانيتين».
«محاسن موتاكم»
على الرغم من أن مذكّرات فرح بهلوي أضاءت جوانب خفية، وأطلعت القارئ على تفاصيل إنسانية اختلط فيها الشهد بالدموع في حياة الشاه وأسرته، إلا أن فرح بدت مائلة إلى تبرير كل تصرفات الشاه في كثير من محطات رحلتها، وكأنها تكتب وفق مقولة «اذكروا محاسن موتاكم»، دون اعتبار للحقيقة أو الصدقية، فدافعت عن البذخ الذي غلّف احتفالات الشاه، وحاولت تبرير بطش السافاك، وإضفاء شكل الحتمية على سقوط الشاه عن عرشه الطاووسي بسبب «مؤامرة كونية» ضده، وكي تنتصر العمامة على التاج. ولم تتطرق فرح، مطلقاً، إلى الخلافات التي وقعت بينها وبين زوجها، وغيرته منها أحياناً بعد أن سحبت منه الاضواء، ونافسته على الشهرة محلياً وعالمياً، ولم تروِ، ولو حتى للتاريخ، المكائد العائلية التي عانتها خلال حياتها في قصور الشاه، خصوصاً من توأم الشاه الأميرة أشرف، وأمه اللذين كانا سبباً في فشل زيجتيه الأوليين. |
وتسرد الإمبراطورة السابقة تفاصيل من حياة الطفولة، ويوميات تقبع في ذاكرتها، لعل من أبرزها تلك البشرى التي كانت مثل نبوءة للصغيرة، فخلال (طقس الحمام) كانت امرأة تدعى توبا تغني لها كي لا تبكي أثناء الاستحمام «لن تتزوجي أي شخص، وإذا جاء الشاه مع جيشه ووزيره ليسأل عنك، فربما نعطيك له، وربما لا».
ومع توديع الطفولة، واستقبال المراهقة تدخل فرح مرحلة جديدة من الحيوية، فتتعلق بالرياضة وتحوز بطولات، وتنضم للكشافة، وينمو وعيها السياسي أيضاً خلال تلك الفترة، لاسيما بعد أحداث ،1952 ووصول الدكتور مصدّق إلى مقاليد الحكم في إيران، لكن ما لبث الشاه أن عاد إلى عرشه بعد انقلاب تم بمباركة أميركية، وتؤكد فرح أن هواها هي وجميع أفراد عائلتها كان مع الشاه.
وتذهب الشابة لإكمال تعليمها ودراسة العمارة في باريس، وتسكن غرفة صغيرة في المدينة الجامعية، وفي ربيع عام 1959 التقت مع عدد من الطلبة الإيرانيين الشاه خلال زيارته إلى فرنسا، ومرّ ذلك اللقاء الأول دون ذكرى ما، لكن حين عادت فرح في الصيف إلى وطنها، جمعتها الظروف بصهر الشاه الذي تحدث معها طويلاً، ورتّب لها لقاء مع زوجته الأميرة شاهناز (ابنة الشاه من زوجته الأولى الاميرة فوزية اخت الملك فاروق)، وعبر تلك العلاقة تعرّف الشاه إلى فرح، وأعجب بها واختارها زوجة.
«إنه صبي»
وتعرض فرح في القسم الثاني من مذكراتها مشاهد لتلك الانتقالة في حياتها، وعودتها إلى باريس، لا كطالبة، بل خطيبة شاه ايران التي تتأهب لعرسها الأسطوري، وتدهش من الهتافات وأضواء فلاشات التصوير التي كانت تحيط بها، رغم أن إعلان خطبتها الرسمي لم يفصح عنه. وما إن عادت إلى إيران حتى تغير نمط حياتها، وكان الزفاف في 21 ديسمبر ،1959 ارتدت خلاله العروس ثوباً من تصميم إيف سان لوران، وصففت شعرها الأختان كاريتا اللتان قدمتا خصيصاً من باريس، وتوّجت بإكليل من مجوهرات التاج الإيراني وزنه كيلوغرامان.
وعمّت الفرحة البلاد، عقب مولد ولي العهد ووريث العرش رضا الذي رزقت به أسرة الملك في أكتوبر .1960
تقول فرح «عندما شاهدت صور الفرحة في الصحف غمرني انفعال بالغ لمجرد التفكير في أن الصبي الصغير الذي يتنفس بهدوء بين ذراعي هو السبب وراء كل هذه السعادة.
وانتشر الخبر بالطبع في جميع أنحاء العالم، ولكن جاء أفضل ترحيب من فرنسا حيث اختارت احدى الصحف كتابة العنوان الرئيس بالفارسية (بيزار أست) (إنه صبي)».
وتطنب فرح في وصف سعادة الشاه الغامرة بوريثه، وحالة التفاؤل التي سادت حياته عندها، لاسيما أن المولود جاء بعد زيجتين، منحته الأولى أميرة، بينما الأخرى لم تعطه أي أبناء، وانتهت التجربتان بالطلاق.
تمر الأيام، ويعلن الملك «ثورته البيضاء» لتحويل إيران إلى دولة حديثة من دون قطرة دم، فيكون قرار الإصلاح الزراعي، لتوزيع الأراضي على الفقراء، وتمكين العمال من المشاركة في أرباح شركاتهم، وإنشاء (فيالق) محو الأمية، ومنح المرأة حق الاقتراع، والترشح في الانتخابات، وكان الأخير سبباً لهجوم زعامات دينية على الشاه، حسب فرح التي أشارت إلى أنه رغم أن الشعب وافق على تلك القرارات إلا أن التظاهرات عمّت مدينة قم، وبرز في تلك الآونة اسم روح الله الخميني الذي «أبدى عدم الاحترام، وأصبح يلقي خطباً ضد التقدم والمدنية، اللذين لخّصهما باعتبارهما تغريباً للبلاد»، وكان ذلك في عام ،1963 ليعتقل وينفى بعدها.
ومع تلك الاضطرابات ولدت الابنة فرح ناز، وبعدها علي رضا (1967)، واخيراً ليلى (1970).
حب وحنين
وتروي الشاهبانو في مذكراتها كيف حاولت أن تخدم وطنها، ليس بسبب ارتباطها بالشاه فحسب، ولكن لحبها لبلدها، فقادت حملة لمكافحة وباء الجذام، وانشأت مركزاً علاجياً لأولئك المنبوذين، وحاولت تحسين ظروفهم العلاجية، وكونت مكتبات للأطفال، وترجمت وأعدت رسومات إحدى قصص الصغار، وجابت انحاء بلدها ملتقية أناساً في أقاليم بعيدة، لتتعرف الى مشكلاتهم وتطلعاتهم، وتعمل على حلها، وازدحم جدول فرح بالأعمال خصوصاً بعد تتويجها إمبراطورة، ووصية على وريث الملك.
وتختتم فرح فصول القسم الثاني بفصل تتحدث فيه عن احتفالات عام 1971 بذكرى مرور 2500 عام على الإمبراطورية الفارسية، في منطقة برسبوليس الأثرية، وتصدت فرح لتبرير البذخ والأبهة التي رافقت الاحتفالات، مدافعة عن وجهة نظر الشاه الذي كان يحاول استعادة الروح الفارسية، وتذكير الإيرانيين بتاريخهم.
وعُرف عن الشاهبانو اهتمامها بالتراث الوطني، وحرصها على كل ما يمتّ لبلدها بصلة،وتتذكر فرح كل تلك الأمور وهي في منفاها وتقول في مذكراتها «كل يوم في المنفى يمثل تذكيراً مؤلماً بأنني لست بين أهلي، وان جذوري مازالت في إيران، ويأخذني، رفيف أجنحة الحمام في الفناء إلى طهران.. وتملأُني قطعة من الجبن على شريحة خبز تعلوها ورقة نعناع، أو قليل من المشمش تحضره صديقة من منزلها، بحنين لا يوصف للماضي، والشاي المغلي مصحوباً بالتوت، عندما يجف هذا التوت في الشمس، ويحتفظ بقليل من ذرات الرمل التي تجرش عندما تمضغ، وأخيراً بينما كنت أتناول بعض هذه الفاكهة صغيرة الحجم التي أحببناها أنا والشاه كثيراً، وجدت في واحدة منها قليلاً من ذرات الرمال، اعتقدت أنها كسرت إحدى أسناني، ولكنني في الوقت نفسه شعرت بسعادة غامرة أنني ابتلعت قليلاً من تربة إيران».
دراما
وتتصاعد وتيرة الأحداث الدرامية في القسم الثالث من المذكرات، الذي تحكي فيه فرح عن بداية معرفتها في منتصف السبعينات بمرض الشاه الخطر، مستشهدة بفقرات من مذكرات طبيب فرنسي كان مسؤولاً عن متابعة حال زوجها.
وتفصل الإمبراطورة أحداث التظاهرات التي تأججت في سنواتهم الأخيرة في إيران، وكيف شلت الاضرابات اقتصاد البلاد، ووقع الهتافات العالية التي كانت تنادي بالموت للشاه، ما استدعى تغيير حكومات، وإعلان أحكام عرفية، لكن من دون جدوى، واتخذ الشاه قراره الصعب «كان مجهداً، فقد اتخذ القرار الحاسم بمغادرة البلاد لفترة، لكنني كنت متأثرة للغاية بحزن التابعين المخلصين، خصوصاً الجيش، وأدى بي ذلك لأن أسأله إن كنت أستطيع أن أبقى في إيران. وقلت له، لن أفعل شيئاً، لكنني سأبقى هنا في القصر كرمز لحضورك، فأجاب في حزن لست مضطرة لأن تكوني جان دارك، وطلب مني أن أبقى إلى جواره».
وهبطت طائرة الشاه كما تروي فرح في القسم الرابع من كتابها عصر 16 يناير 1979 في أسوان (أقصى جنوب مصر)، وكان الرئيس المصري الراحل أنور السادات وزوجته في استقبال الشاه وفرح اللذين انتقلا بعد نحو أسبوع إلى المغرب، وعملا بعد ذلك على تدبير منفى جديد كي لا يتسببا بحرج للمغرب، وترفض فرنسا لجوء الشاه إليها وكذلك أميركا، ويكون البديل جزر الباهاما التي استقبلته ثلاثة أشهر، تقول فرح «كانت لدينا علاقات مع معظم بلدان العالم بعضها علاقات وثيقة وعلاقات صداقة، والآن يديرون جميعهم ظهورهم لنا».
وتكون محطة الشتات الجديدة بعد الباهاما جنوب المكسيك، وبعدها تتدهور صحة الشاه، ما يتطلب جراحة في أميركا، وينتقل بعدها إلى بنما، ثم إلى مصر حيث رحل وشيعت جنازته في 29 من يوليو 1980 بعد يومين من وفاته.
وفي القسم الخامس من الكتاب تحكي أرملة الشاه أياماً عصيبة عاشتها الأسرة جميعها بعد رحيله، وكيف قام ولده رضا عقب بلوغه سن الـ20 بخلافة والده، والتنسيق بين جماعات إيرانية في بلدان مختلفة، وانتقل بعد ذلك إلى المغرب، فيما استقرت فرح والأسرة في أميركا، وتكون خاتمة فصول مأساة فرح مع موت ليلى، أصغر الأبناء التي أصيبت بمرض نفسي ظلت تعاني منه إلى أن ماتت في يوليو ،2001 وإن كانت فرح لم تفصّل أسباب ذلك المرض، ولا السبب الحقيقي الذي ماتت بسببه ابنتها.