إليزابيث غيلبرت وجدت فردوسها المفقود في «التوازن». غيتي

«طعام.. صلاة.. حب».. امرأة تبحث عن ذاتها‏

‏في سرد عفوي مشوق، تتوالى الحكايا في كتاب «طعام.. صلاة.. حب» للصحافية الأميركية إليزابيث غيلبرت التي روت تجربتها في البحث عن سلام وتوازن لذاتها، وفصّلت ببوح شبه تام مرحلة حرجة من حياتها، تعرضت فيها لانتكاسة أشبه بأزمة منتصف العمر، قلبت كيان الكاتبة، ودفعتها إلى المرور بمحطات «نفسية» عدة في بلدان مختلفة، لعل روحها القلقة تعثر على سكينة ما، بعد اضطراب طويل.

استطاعت إليزابيث في مذكراتها التي حظيت برواج كبير، تحقيق معادلة صعبة، إذ سردت الكاتبة سيرتها بعدم ادعاء، وغلفت ذلك بمهارة روائية متمرسة، تعرف كيف تجتذب القارئ إليها، وتجعله مشدوداً إلى حكيها، وصدقها أيضاً، ربما يختلف متلقٍ معها، ويستغرب في بعض الأحيان متسائلاً لماذا تفعل تلك المرأة ذلك؟ إلا أن آخر يتعاطف مع صاحبة السيرة، ويحترم اختياراتها، ورغبتها في تغيير جميع مساراتها، بل قد يرى في بعض ازمات إليزابيث ذاته، ويستشعر أن الكاتبة تروي جزءاً من معاناته، وترشده إلى كيفية اللوج إلى متاهة النفس التي هي عرضة لتقلبات عدة، ولا تؤاخذ في أحيان كثيرة بما تفعل.

تروي إليزابيث في كتابها الذي صدرت نسخته العربية عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وترجمته زينة إدريس، 108 من الحكايا موزعة على ثلاثة أقسام، ففي الـ36 حكاية الأولى يكون سعيها في ايطاليا إلى السعادة الداخلية، بينما في القسم الثاني تحط الكاتبة في الهند لتبدأ 36 حكاية أخرى سعياً إلى التأمل، وفي القسم الأخير تلقي «ليز» رحالها في إندونيسيا طلباً للتوازن.

«لا أريد أن أكون زوجة بعد الآن» كانت تلك هي الحالة التي استولت على إليزابيث، في مطلع الـ30 من عمرها، وجعلتها تريد إنهاء علاقة دامت لثماني سنوات، أحست في لحظة ما ـ وإن وُجدت أسباب أخرى آثرت ألا تبوح بها ـ أنها لا تحب زوجها، وعاشت أياماً من الاضطراب، وبعدها طلبت الطلاق، لتدخل في مساومات ومصاعب طويلة لم تنته إلا بعد عامين، إذ أطلق سراحها بخسارة كبيرة، وفقدت كل ما جمعته من مال ومنزل خلال عملها صحافية ومؤلفة كتب.

خلال تلك الفترة الصعبة التي عانت فيها المؤلفة من الاكتئاب والعلاج النفسي، تتعرف بديفيد، وتهيم به، وتعتقد أنها صادفت أخيرا «بطلها الرومانسي»، إذ كان شاعراً وفناناً، وبالفعل عاشا قصة عشق، لكن تنقلب تلك الحالة بعد حين إلى مأساة ثانية، إذ ضغطت الاضطرابات النفسية على الكاتبة، وصار القلق ومضادات الاكتئاب ملازمين لها، ولم تلقَ من صديقها الاهتمام الكافي فكان الانفصال، رغم بقاء قلب إليزابيث متعلقاً بديفيد.

حاولت الكاتبة الأميركية التغلب على أحزانها، وقررت أن تقضي عاماً كاملاً في ثلاث دول، إيطاليا والهند وإندونيسيا، تقول «ما أسعى إليه ليس استكشاف تلك البلدان، لقد سبق وتم ذلك، ما أردته هو أن أستكشف بعمق ناحية معينة من ذاتي في إطار كل تلك البلدان، أردت استكشاف فن المتعة في إيطاليا، وفن التأمل في الهند، وفي إندونيسيا فن الموازنة بين الاثنين».

 «ليز»

ولدت اليزابيث غيلبرت في عام 1969 في ولاية كونيكتيكت الأميركية، وتخرجت في جامعة نيويورك ـ تخصص السياسة في عام 1991 ،وبعدها عاشت ـ كما ذكرت موسوعة «ويكيبيديا» ـ حياة تشرد، فعملت نادلة وطباخة.

في عام 1993 نشرت لها دار شهيرة مجموعة قصصية بعنوان «الحجاج»، فأصابت بعض الشهرة، وبعدها عملت صحافية في عدد من المجلات، ولها أيضاً كتابا «رجال ستيرن»، و«رجل أميركا الأخير». أما مذكراتها فحققت مبيعات كبيرة، وكانت على قائمة الـ«نيويورك تايمز»، وستحول إلى عمل سينمائي تقوم ببطولته النجمة جوليا روبرتس. ‏

إيطاليا

كانت إيطاليا محطة الكاتبة الأولى، فرحلت إليها لتعلم لغة تعشقها، ومعايشة ثقافة جديدة، وقبل كل ذلك البحث عن «الفردوس المفقود للسعادة». تتفرغ إليزابيث لدروس الإيطالية، ويبقى ديفيد نقطة ضعفها إذ كانت تحن للعودة إليه، وإحياء العلاقة.

تنخرط إليزابيث في صداقات جديدة، وتتعرف إلى الأكلات الإيطالية قبل معالمها، وتتحرر من علاقة ديفيد، وتتجول بين مدن عدة في رحلات قصيرة، مختبرة أطعمتها المختلفة، حتى إنه زاد وزنها 11 كيلوغراماً في أربعة أشهر، واضطرت إلى شراء ملابس جديدة، تناسب حجمها الجديد، لكنها كانت سعيدة بذلك إلى حد ما، وتقول «أتيت إلى إيطاليا ذابلة ونحيلة، كنت أجهل ما أستحق وربما لأازال، ولكنني أعرف أنني انتشلت نفسي من الموت عبر الاستمتاع بالملذات غير المؤذية، لأصبح امرأة أكثر سلاماً. والطريقة الأسهل والأكثر انسانية لقول ذلك هي أنني ازددت وزناً. أصبحت الآن موجودة أكثر مما كنت عليه منذ أربعة أشهر. وسأغادر إيطاليا وأنا أكبر حجماً بشكل ملحوظ مما كنت عليه حين وصلت».

الهند

وسط نساء يرتدين الساري، ونسّاك بأجساد نحيلة، في معتزل ناء في الهند، تكون محطة إليزابيث الثانية، فتدخل في طقس مغاير لما كانت عليه قبل يوم في إيطاليا، فمن المتعة والأطعمة والرحلات إلى التأمل والعمل اليدوي وحف أرض المعبد لساعات. وتفصل المؤلفة مشكلاتها مع التأمل، وكيف أنها فشلت في تنحية ماض طاردها في ذلك المعتزل، خصوصاً حبها لديفيد.

تتعرف الكاتبة في ذلك المكان، الذي لم تذكر اسمه الحقيقي ولا مكانه، كي يظل هادئاً بمنأى عن الإعلام إلى اناس في بلدان مختلفة أتوا جميعاً لأغراض مختلفة، وإن جمع بينهم البحث عن استراحة من الصخب، ومحاولة التأمل للوصول إلى صفاء ولو مؤقت.

تحقق الكاتبة نجاحاً ما في ممارساتها الروحية الجديدة، وتدنو من سلامها الداخلي إلى حد ما، وتفلح في إسكات وسواس الماضي، وتقفز فوق عثراته، وتنخرط في أعمال خدمية في ذلك المعتزل. تقول في قصيدة تختتم بها إقامتها في الهند «لو تركوني أرتدي ثوباً منسوجاً من العشب الندي لهذا المكان لفعلت.. لو تركوني آكل تراب هذا المكان على طبق من أعشاش العصافير لأنهيت نصف الطبق، ونمت على الباقي الليل بطوله».

 

إندونيسيا

في جزيرة بالي الإندونيسية تكون خاتمة رحلة إليزابيث، وتذهب إلى عرّاف عجوز كانت زارته من قبل وقرأ لها كفها، وأخبرها بأنها ستعود إلى المكان ذاته، وتتوثق علاقتها به، ويرشدها إلى معارف جديدة، وتقضي في صحبته ساعات طويلة، وتتطلع إلى ما يقوم به من علاجات للمرضى في تلك الجزيرة، وتلقي الكاتبة الضوء على حياة العراف وقصته. وكعادتها في تكوين صداقات وعلاقات اجتماعية سريعة تتعرف الكاتبة في بالي إلى أناس جدد، وتتوثق علاقتها بهم، ومن بينهم إندونيسية مطلقة تعول ابنة، بالإضافة إلى فتاتين يتيمتين كانت تتبناهما، وكان حلم تلك المرأة هو شراء بيت، وبالفعل تساعدها الكاتبة التي أرسلت إلى اصدقائها في اميركا، وقامت بحملة من أجل توفير ثمن بيت للإندونيسية.

وفي إحدى الحفلات تتعرف إلى رجل برازيلي (فيليبه) مستقر في بالي، تتردد بداية في تلك العلاقة، ولكن بعد حين تستشعر صدق حبه، فتتوطد العلاقة، ويتحقق «وعد حب حقيقي»، وتكون النهاية السعيدة المتوازنة التي كانت تبحث عنها الكاتبة، عابرة بذلك أحزانها.

ولا تخلو حكايا «طعام.. صلاة.. حب» من شهادات عن الأماكن التي حلّت فيها كاتبته، إذ استطردت إليزابيث مثلاً في وصف معالم عدة، ورسم ملامحها، وكأنها مرشد سياحي حافظ لتاريخ المكان، وانتقدت كذلك بعض الأنماط والعادات، متطرقة إلى تواريخ مظلمة في أماكن مختلفة خلال رحلتها.‏

الأكثر مشاركة