عفيفي مطر يختـــــتم «زيارات الدهشة»
لم يخلف الموت موعده، نهاية الشهر الماضي، مع الشاعر محمد عفيفي مطر، المبدع الذي ظل يترقب نداء الرحيل، منذ سبع سنوات أو يزيد، بعد أن ترسخت بداخله مقولة أبيه عن أن رجال عائلاتهم يموتون في الغالب في الـ68 من العمر، كما روى ذلك عفيفي مطر في سيرته الذاتية «أوائل زيارات الدهشة.. هوامش التكوين»، لكن يبدو أن الشاعر الفلاح، ابن قرية «رملة الأنجب» في محافظة المنوفية (شمال القاهرة)، منحته القصائد المكتوبة تحت ظلال الصفصاف، والمترعة بقاموس وصور شديدة الخصوصية، ترياقاً سرياً، فعاش حتى بلغ الـ75 على خلاف المعهود في عائلته.
اشتهر عفيفي مطر (1935 ـ 2010) بأنه واحد من المبدعين أصحاب المواقف، وليس من حملة المباخر منشد أقسم «ألا ينحني إلا لعشب الأرض أو قطر الندى»، لم يركّع هامة حرفه لأحد، صغيراً كان أم كبيراً، جعل الشعر سيداً، وليس خادماً، وسعته قريته، واكتفى بجلباب ريفي بسيط في قرية نائية، حين خلبت «النداهة» العاصمة القاهرة كثيرين من المثقفين، بينما كان هو لا يزورها إلا لماماً، لمعرض كتاب لا تمنحه إدارته حق أن يكون ضيفاً على ندوة فيه، مستأنساً بمريديه وتلاميذه من الشعراء، ممن كانوا يحفظون موقعه الثابت في مقهى المعرض.
رصيد
كان الراحل محمد عفيفي مطر صاحب بصمة شعرية مميزة، بدت في قصائده الأولى، ومن بينها «فردوس بائعة المانجو» التي ظهرت عام ،1957 وإن أشار الشاعر إلى انها ليست أولى الأشعار، بل سبقتها محاولات، واستمرت نكهة عفيفي مطر الخاصة في أعماله بعد ذلك، ومن الدواوين المبكرة لعفيفي مطر «مكابدات الصوت الأول» الذي ضمنه قصائد كتبها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وتوالت بعد ذلك أعمال «من دفتر الصمت» ،1968 و«ملامح الوجه الأنبادوقليسي» ،1969 و«الجوع والقمر» ،1972 و«رسوم على قشرة الليل» ،1972 و«كتاب الأرض والدم» ،1972 و«شهادة البكاء في زمن الضحك» ،1973 و«النهر يلبس الأقنعة» ،1976 و«يتحدث الطمي» ،1977 و«أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» ،1986 و«رباعية الفرح» ،1990 و«فاصلة إيقاعات النمل» ،1993 و«احتفاليات المومياء المتوحشة» ،1992 أما «من مجمرة البدايات» فهو آخر ما نشر للشاعر، قبل أعماله الكاملة، واشتمل على مجموعة قصائد متفرقة قديمة كما يظهر من عنوان الديوان. كما كتب عفيفي مطر للأطفال «مسامرات للأطفال كي لا يناموا»، علاوة على عدد من الترجمات والمؤلفات الأخرى التي اثرى بها المكتبة العربية، إضافة إلى قصائد أخيرة نشرت في صحف ومجلات عدة، لكن لم يمهل القدر الشاعر لجمعها في كتب. يشار إلى أن محمد عفيفي مطر حصل على جائزة الدولة التشجيعية في مصر عام ،1989 وجائزة سلطان العويس ،1999 وجائزة الدولة التقديرية عام .2006 |
مواقف
جهر صاحب «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت» بمواقفه، وسدد راضياً فاتورة ذلك، تجاهلاً ومشانق صمت وغربة واغتراباً وسجناً أيضاً، إذ رفض مسؤولون في مصر لفترة طويلة نشر أي ديوان له، بل إن مبدعاً بحجم الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور حينما كان رئيساً لإحدى مؤسسات النشر الحكومية قال عن مطر «لن أنشر له ديواناً ولو على جثتي»، ما دفع الشاعر الشاب إلى أن ينشر دواوينه في عواصم اخرى، خصوصاً أن شهرة شعر عفيفي مطر تخطت جغرافية الوطن، إذ شهدت مجلة «شعر» اللبنانية قصائد كثيرة له، خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ولكن في نهاية التسعينات طبعت دار الشروق المصرية الأعمال الكاملة، حينها، للشاعر الرافض للتدجين ومهادنة السلطة، واحتفت أوساط أدبية في مصر بذلك الحدث، حتى إن الروائي إدوار الخراط قال إن «محمد عفيفي مطر أعظم شاعر في بر مصر».
وفي نهاية السبعينات، وبعد توقيع «كامب ديفيد»، أعلن عفيفي مطر معارضته للمعاهدة، ودفع الثمن غربة ورحيلاً عن مصر، واستبدل بالنيل فراتاً، وبثمار توت قريته تمراً في بلاد الرافدين، إذ بقي في العراق نحو سبع سًنوات، وعمل محرراً في مجلة الأقلام العراقية، لكن ظلت روح الريفي تواقة لطين وطمي وحتى موتى «رملة الأنجب»، ترتحل إليها مناماً، لتكون لقاءاتها في الأحلام هي السلوى لعفيفي مطر الذي يقول «أعلنت ميثاق الإقامة بالرحيل.. وتركت وقع خطاي في سر الشجر.. واسّاقطت ما بين عيني والبلاد.. زمردات من حجر... ليس لي إلا سويعات من النوم السخي أمر فيه على البلاد.. وأستعيد الشمس والرعي الطليق.. أكلم الموتى.. وأسمع ما تزمزمه العظام».
أما الضريبة الأقسى التي دفعها محمد عفيفي مطر فكانت الاعتقال عام ،1991 عقب معارضته لحرب الخليج الثانية، إذ تظاهر ضد الحرب على العراق، وتعرض الشاعر لتعذيب قاس، وكانت تجربة السجن مريرة، عبر مطر عن طرف منها في ديوانه «احتفاليات المومياء المتوحشة» الذي صدر عام ،1992 لتكتمل صورة مثقف حر، يدعم الكلمة بالموقف، حتى وإن تعرض وهو على مشارف الـ60 للتعذيب والسجن والاتهام بأنه «بعثي ممول» يحاول إنشاء فرع للحزب في مصر.
بدايات
في كتابه النثري «أوائل زيارات الدهشة.. هوامش التكوين» يتعرض عفيفي مطر بعفوية، وشاعرية لا تفارق قلمه، لأجزاء من سيرته الذاتية، فيحيل القارئ إلى عالم المبدع الأول في القرية، ويرسم تفاصيل قد لا يدركها مطالع قصائده، فيروي حكايات عن معلمته، وشاعرته، الأولى أمه، وكذا عن منزل الجد، وأساطير كانت تحكى في القرية، ومدرسيها، وبعض أصدقاء الصبا، وشرارة الإبداع المبكرة وغيرها من الهوامش الكثيرة، والمشاهد السريعة أحياناً.
أولى محطات الدهشة التي زارها عفيفي مطر في سيرته، كانت مع الأم التي أهداها الكتاب: «جليلة الجليلات (سيدة أحمد أبوعمار) فيض البركة في الزمن الصعب، وبسالة الحنان الكريم في عصف الشظف.. أمي»، من أسلمته إلى كتاب القرية ليتعرف إلى جزء «عم يتساءلون»، ومن كانت تصحح له، حين يخطئ في تسميع قصار السور، وهي أيضاً التي أنارت شمعة الشعر الأولى في طفلها، فباكورة الأبيات التي وعاها عفيفي مطر سمعها من أمه، إذ كانت تهدهده بأغنية معينة وهو محموم، ولذا بقيت في ذاكرته، وحاول فيما بعد أن ينسج على منوال تلك الكلمات الخارجة منغمة مشحونة بدفء الأمومة.
راعٍ
يسرد صاحب أبيات «عشقت الشعر من أيامي الأولى.. وغاية مقصدي: لو صرت بين السادة الشعراء ولو عبداً.. أسير وراءهم والرمح في كفي.. وأرعى الخيل.. أحرس بابهم في الليل» في هوامش التكوين قصته مع القراءة، وتعلقه بالكلمة الجميلة، وكيفية تبلور جين المبدع بداخله، مشيراً إلى أن ذلك المس الجميل أصابه بعد أن قرأ ديوان «أين المفر» للشاعر محمود حسن إسماعيل، وظل يتلمس قصائد ذلك المبدع، ويقول «بدأت البحث عن كل حرف كتبه محمود حسن اسماعيل، وحين قال لي صديق.. ان أباه مشترك في مجلة ينشر فيها محمود حسن اسماعيل قصيدة في كل عدد من أعدادها الشهرية كنت أذهب الى قريته بدراجة أقطع بها 15 كيلومتراً في الذهاب والاياب لأنسخ هذه القصائد وأعود بها الى قريتي».
وينضم إلى صاحب «أين المفر» مبدعون عرب وأجانب آخرون، لعل من أبرزهم مصطفى صادق الرافعي، وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي، ونيتشه عبر كتاب ترجمه الدكتور عبدالرحمن بدوي، ومحمد إقبال، وهوميروس، ومحاورات أفلاطون، وتتسع مدارك الشاب حين يتحول إلى دراسة الفلسفة، في جامعة عين شمس، لتصير قصيدته فيما بعد ساحة إبداعية تتلاقى فيها قامات فكرية عربية وعالمية، وتستحيل بعض أشعاره إلى مغامرات فلسفية عميقة، تشتمل على صور ممتدة، وغابات رموز تحتاج إلى قدرات خاصة في قراءتها والتعامل معها.