دراما الواقع تصدم المتلقي وتستنـفر «حرّاس الأخلاق»
في البحث عن الواقع في الدراما الرمضانية لهذا العام، نقع على أكثر من واقع، ومعها جميعاً الحقيقة الكبرى المتمثلة بجهاز التحكم المتحكم بالأوقات، والذي سيكون أولاً وأخيراً مصدر تنافس كل القنوات، وكيف يمكن لها أن تجعل من رقم ترددها خيار المشاهد، وجعله إن أمكن مستقراً عليها لا يفارقها إلى قنوات أخرى.
لن يتطلب الأمر الكثير من الذكاء والحنكة ما دامت أدوات تحقيق نسب المشاهدة الأعلى معروفة، وهناك أرقام واحصاءات وأبحاث ستكون عنصر الحسم في ما تعرضه القناة أو لا تعرضه، وبالتالي الابتعاد عن الواقع ما أمكن، كون المشاهد افتراضاً لا يحب أن يرى واقعه بل ما يلتف عليه، أو ما يساند اعتقاده بأنه واقع، فيأتي العمل الدرامي مفصلاً تماماً لترسيخ اعتقاده بذلك، ولنا في ما حملته «إم بي سي» تحت مسماها بـ«شاشة العرب» مثالاً ساطعاً على ذلك، فالسحر مثلاً له أن يكون «شر النفوس» لثلاث مرات، ونحن نرى لهذا الشر وهو يصوغ حياتنا بما يرسخ اعتبار ذلك أخطر ما يمكن أن يجابهه الانسان العربي، بينما يخرج «القبضايات» من الحارات فيعم العدل وتسود القيم الخيرة ونعيش حياتنا بالرفاه والبنين، أو عبر العودة بالزمن والخروج من مجلدات التاريخ بشخصيات لها أن تتناغم والشهر الفضيل.
كل ما تقدم بديهي، وفق آليات العرض والطلب، وعلى شيء من الحرية التي يتيحها البث الفضائي وهو يمنح المشاهد خيارات لا متناهية، له أن يقررها بمجرد أن يضغط على مفتاح في جهاز تحكم، ولنا هنا أن نتتبع ما يمكن أن يكون إشكالياً في ما يعرض في هذه الدورة الرمضانية، مع التأكيد في الوقت نفسه على أن الاستطلاعات التي تقودنا إلى المسلسلات التي تحقق نسب المشاهدة الأكبر تضيء لأي باحث اجتماعي وقبل الفني ما يسود عالمنا العربي من معتقدات وأفكار لها أن تتضح من خلال الاختيار الحر المتاح أمام المشاهد في بحر متلاطم من المسلسلات.
جدل
أكثر المسلسلات التي تثير جدلاً وتتعالى في وجهها الاعتراضات، هي المسلسلات التي تقدم واقعاً ما، ذلك أن المسلسل سيصطدم في الحال بقوى موجودة حقيقة في الواقع، فإن لكل شخص تخيلاً ما عن واقعه، لا يريد لأحد أن يأتي ويريه ما يناقض هذه الصورة، وتحضر هنا على الفور حقيقة فاقعة متمثلة بأن أي عمل فني حقيقي هو بالضرورة إشكالي، إذا يكفي مقاربة الواقع كما هو ليمسي كذلك، كما أن أي شخصية كما نراها يومياً مثلاً ومن بعيد لن تبقى مجرد صورة، أو شيء يمشي على قدمين، بل كتلة مجبولة من المشاعر والتناقضات والمشكلات وما إلى هنالك.
وعندما نقرر أن نخرج بأعماق الشخصية فإنها ستكون إشكالية بالضرورة، وبالتالي فإن تلقفها يكون على هدي معتقدات وآراء المتلقين، فهذا يرى بها تمثل جنسية ما وآخر قوماً من الأقوام، وبالتالي فإن الصورة المقدمة سيعتبرها مسيئة لمجرد كونها واقعية، بينما يحضر على الفور حراس الأخلاق الصناديد «وما أكثرهم » لينصّبوا أنفسهم حراساً حاضرين هنا وهناك يرون الحق ما يتناسب ومصالحهم، والخطأ ما يتعارض معها، مع جاهزية دائمة للتوقيع على بياض، لكن هؤلاء الحراس الدينيين والأخلاقيين أصبحوا يقدمون خدمات جمة للأعمال الدرامية والفنية، فكلما ناهضوا عملاً أو طالبوا بمنعه حتى زادت نسبة مشاهدته، ولعل شركات العلاقات العامة صارت مدركة لذلك، كما هو الحال هوليووديا، إذ يمكن أن تكون الاعتراضات والمطالبات بمنع فيلم أو غير ذلك مدفوعة الأجر.
«ما ملكت أيمانكم»
يمكن إطلاق صفة الواقعية على مسلسل نجدت أنزور «ما ملكت أيمانكم» الذي تعرضه القناة الفضائية السورية، وليكون الواقع الذي يقدمه هذا المسلسل نسوياً بامتياز، ولعل هذه الصفة ستكون فضيلة المسلسل الكبرى بما يتناغم مع اعتقادنا بأن المجتمع أي مجتمع يمكن معاينته من وضع المرأة فيه، وليقدم هذا المسلسل الذي كتبته هالة دياب مقاربة واقعية وراهنة لأوضاع المرأة في المجتمع السوري وعلى امتداد خطوط درامية كثيرة متداخلة من خلال علاقات اجتماعية خاضعة للراهن والمتغير في هذا المجتمع، وعلى شيء استدعى توقف عدد كبير من المعترضين على المسلسل أمام العنوان من دون أن يكون قد عرض.
يقدم «ما ملكت أيمانكم» نماذج عدة من النساء اللواتي يجمعهن معهد لتعلم اللغة الانجليزية، ولتشكل كلمة «تطرف» الكلمة المفتاح في هذا العمل، فمع الشخصية التي يقدمها مصطفى خاني، المتوحش السلفي، الغارق في وحل النفاق والتطرف، هناك أيضاً تطرفات من أنواع مختلفة سواء من جهة الحياة المنفلتة من أدنى قيمة، كما هو الحال مع الشخصية التي تجسدها رنا أبيض، وليحضر أيضاً الفساد، ومشكّلات العلاقات الاجتماعية وفق تحالف السلطة مع المال، وبالتأكيد علاقة المرأة مع الرجل كما هو حال شخصية ديما قندلفت التي ما أن تصطدم برجل ذي نفوذ حتى تتوقف حياتها وتلجأ إلى البيت.
طبعاً هذه ملامح من الخطوط الدرامية التي يقدمها المسلسل مع وجود خطوط كثيرة متناسلة من تلك الرئيسة، مثل حال الفتاة العراقية وغيرها مما سيضعنا أمام أزمات اجتماعية هي بالأساس اقتصادية تطال كل شيء، فالدين مع الشخصية التي قدمها الخاني، أداة لممارسة التسلط واضطهاد المرأة وفي الوقت نفسه مادة للازدواجية، الذي لا يتردد باغتصاب فتاة وهو يدعو في الوقت نفسه الى الجهاد، وفي انتصار للعنف على أية قيمة أخرى، بعد أن شاهدنا الوحشية التي يتعامل فيها مع أخته ليلى (سلاف معمار) الشخصية الأكثر رصداً ربما، لما سيطالها من تحولات وهي تهرب من ماضٍ متشكل وفق إرادة أخيها الذي يحيلنا إلى نمط من التدين الذي لا يعرف في الدين إلا إقامة الحدود، والافتاء حسب أهوائه ورغباته، ولنا في ما يقابله في والده والشيخ الآخر الذي يجابهه دائماً، أمثلة على تدين من نوع آخر، منفتح على خطأ وصواب الإنسان، ووضع الحدود في سياقاتها الفقهية والتاريخية، ولعل الصراع هنا بين الجهل والمعرفة، بين العنف والسماحة، ويضاف إلى ذلك مدرّسة الدين التي تشكل شكلاً آخر من الجهل وتسطيح الحياة.
مسلسل «ما ملكت أيمانكم» يضعنا أمام عينات اجتماعية كثيرة لكل منها أن يعيش أزمته، التي هي في النهاية أزمة مجتمع بأكمله. أما على الصعيد الفني فإن الحلقات الأولى من المسلسل كانت أجمل على الصعيد البصري، وعين أنزور على السينما، الأمر الذي سرعان ما غاب مع توالي الحلقات.
«تخت شرقي»
وفي تتبع للدراما الواقعية أيضاً يحضر بقوة هذا العام مسلسل «تخت شرقي» الذي يعرضه تلفزيون أبوظبي وقنوات أخرى، ليكون مقاربة مغايرة للواقع الاجتماعي عبر سيناريو مصاغ بعناية وحوار لافت كتبتهما يم مشهدي، وقامت بإخراج المسلسل رشا شربتجي، حيث المقاربة هنا مختلفة عن «ما ملكت أيمانكم» كونها تقترب من العلاقات الاجتماعية في نطاق الطبقة الوسطى المثقفة، والتي لها أن تكون في نماذج عدة على مقربة من الفقر، وهنا سيحضر الحب أو السرير «التخت» الذي تلتقي وتفترق عليه المصائر، وعلى ما يجعل العلاقات الاجتماعية التي يقدمها المسلسل مأخوذة بإضاءة ما طرأ على هذه العلاقات وفق المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، والتي تقدم بأكبر قدر ممكن من مقاربة واقعها، حيث الخيانات الزوجية وخفة العلاقات وتبدلها ستكون ملمحاً واضحاً من ملامح تلك المتغيرات، والتي تمضي جنباً إلى جنب مع علاقة الطبيب (مكسيم خليل) مع الطبيبة (سلاف معمار) على شيء يشبه جاك نيكلسون وهيلين هانت في As Good As Ge أو علاقة تلك المريضة (أمل عرفة) وطبيب التجميل (سلوم حداد) كما لو أنها «المريضة الانجليزية» بدل «المريض الانجليزي» فيلم مانغيلا الشهير. تبقى الدراما كلمة مفصلية في الخطاب الثقافي العربي الحالي، وهي الأكثر تأثيراً طالما أنها تدخل كل بيت، خصوصاً عند الحديث عن المغفور له الكتاب في ظل التدهور الكبير في فعل القراءة، ولعل إدراك ذلك يجعل منها أداة مؤثرة بحق، قادرة على تسليط الضوء على مناطق مظلمة، مساندة الوعي وغير ذلك مما لم ولن يتناقض مع الترفيه الشرط الأول لنجاح ذلك، وبعيدا عن الترفيه ودغدغة مشاعر المشاهدين وكل ما يتوق إليه المهوسون بزيادة نسبة المشاهدة، وإن كان ما يشاهدونه دعوة الى النكوص والتخلف والجهل.