«غسان قلبي».. سيرة تليق بـ«أب وابن». أرشيفية

«غُسان قلبي».. سيرة حزن مصفّى

على غير النسق المعتاد في سير ذاتية كثيرة، يؤثر أصحابها رواية تفاصيلها بـ(ولدت، ترعرعت، قرأت، تأملت، أحببت، فشلت، عانيت، شرّقت، غرّبت، ورضيت نهاية عن حياتي)، كان سرد الكاتب الفلسطيني صلاح حزين لفصول من سيرته في «غسان قلبي»، تلك الأوراق التي تحولت إلى كتاب، لم يره حزيّن مطبوعاً، بسبب رحيله في مطلع أغسطس من العام الماضي.

أتت سيرة حزين، متفردة، شكلاً ومضموناً، لأكثر من وجه، فهي سيرة «حزن مصفى»، حلّ بغُسان (صميم) قلب الكاتب، ورغم محاولاته لجعل حزنه حزناً وقوراً، ودمعه العصي العاقل دمعاً منضبطاً، إلا أن الدراما المكثفة التي عاشها في آخر سني حياته أبت ذلك، فألقت الألم كله «دفعة واحدة»، وقسمت السيرة ـ التي لم تكتمل ـ على حياتين، حياة الأب المنحدرة نحو المغيب بعد المرض، وحياة الابن (غسان) الحاضر/الغائب عن الوعي بسبب إصابته في حادث سيارة.

خط حزيــن كلماته، كما ذكر، وهو «اسير انتظارين»: انتظار إفاقـة ولده الشاب، ابن الخامسة والعشرين وقت الحادث (يوليو 2006)، وانتظاره لرحيله بعد تسلل «الخبيث» إلى خلايــاه، ورغــم تداعي جسد الأب بعد تغلل السرطان فيه، إلا أن القلم ظل يستذكر تفاصيل من حياة الابن، ويأنس بوصف طلاته البهية، مستعرضاً مشاهد كثيرة يستدعيهــا من مخزن الذاكرة التي كانت تحتفظ بالكثير عن الابن.

في المقابل توارت صورة الاب في أحايين كثــيرة في الظل، وكأنه راوٍ يستحث غسان الطفل المشاكس والصبي والجامعــي والاعلامي والصحــافي النشط أن يأخذ بيد غسان الغائب عن الوعي.

خاص وعام

ابن «عين كارم»

صلاح حزين، كاتب ومترجم وصحافي، عمل لسنوات طويلة في جرائد ومجلات عربية عدة، من بينها «العربي» الكويتي، و«الغد» الأردنية، و«الحياة» اللندنية. ورغم أن كتاباته تميزت بطابع خاص، ومن أبرزها ما نشره في مجلة الكرمل عام 1998 تحت عنوان «البلدة التي لم أزرها» عن بلدته عين كارم التي غادرها مع أسرته وهو رضيع، إلا أنه لم يسع إلى تجميع تلك الكتابات ونشرها في كتب مستقلة.

وترجم حزين، الحائز شهادة التخصص في الأدب الإنجليزي من جامعة دمشق، روايتي جوزف كونراد «قلب الظلام»، وهوراس ماكوي «إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟» وصدرتا في عام ،1983 وطبعت الرواية الأولى ثانية في عام 2004 عن دار أزمنة في عمّان. كما كان للراحل أبحاث عميقة واهتمام خاص بالادب الصهيوني.

عين كارم البلدة التي لم يزرها حزيّن إلا على الورق. أرشيفية

انطلقت سيرة حزين في «غسان قلبي» من أحزان صاحبها الشخصية جداً، وتأنت في بعض الوقفات (سبعة فصول في 98 صفحة) أمام الهم العربي والإنساني العام، لتتداخل الآلام وتتشابك: رقدة غسان، بالحرب على لبنان، وضحايا حوادث الإهمال العربي، بموتى القذائف الاسرائيلية، ومأساة الشاب الصغير، بمأساة وطن صارت مساحته المجازية، أرحب من حيزه الواقعي، وجنازة مكونة من أربعة أشخاص لمنفي عراقي، بآلام المشردين العرب في كل الأصقاع.

تدور فصول السيرة التي نشرت حلقات منها في جريدة «أخبار الأدب» المصرية، وأعاد طبعها أخيراً في كتاب مركز أوغاريت الثقافي في رام الله بفلسطين، تدور حول حادث السيارة الكارثي الذي تعرض له غسان حين كان، كما روى الأب في فصل بعنوان «ألم عام.. ألم خاص»، يصطحب في سيارته المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي إلى المعبر، بعد زيارة قصيرة قام فيها الأخير بزيارة لعمان، ودخل غسان احد المسارب الخاطئة التي لا توجد فيها علامات مرورية يسترشد بها السائقون، يروي ذلك حزين في كتابه قائلاً: «لم يكن غسان قد سار كثيراً في المسرب الخاطئ حتى صدمته شاحنة صغيرة، يقودها شاب في مثل سنه، دمرت السيارة، وأصيب غسان الذي انقلبت عليه الشاحنة من جهة الرأس إصابة بليغة. تضررت القشرة الدماغية، لكن صندوق الجمجمة بقي سليماً فلم ينكسر، وأصيب الدماغ بأكثر من نزيف، كان أكثرها خطورة ذاك الذي أصاب المنطقة المعروفة بجذر الدماغ، وهي منطقة تتحكم بكثير من الوظائف الحيوية للجسم، وأصيب ميشيل بكسور في عنقه وفي ساقه».

تتبدل حال أسرة حزين عقب الحادث، ومعرفة أفرادها بأن غسان دخل في «حالة غيبوبة تعرف طبياً بأنها حالة خضارية دائمة»، يبحث الاب طويلاً في تاريخ المرض النادر، يتمسك بطاقة من النور المستمدة من بعض ابتسامات الابن أحياناً، ومن الأوهام، كما ذكر الكاتب نفسه أحياناً أخرى، ويسجل بعض يوميات الالم خلال إقامة غسان في المستشفى لمدة ثلاثة اشهر، وبعد عودته إلى غرفته وكتبه وأقراصه الموسيقية، ولكن بحال غير التي كان عليها قبل الحادث.

صورة

استطاع قلم صلاح حزين ببراعة، أن يرسم صورة شبه متكاملة لغسان، في مراحل مختلفة من حياته، بشكل يجعل قارئ السيرة يصادق ذلك الشاب، ويزوره في بيته، ويستمع معه إلى موسيقاه المفضلة، ويرى كثيراً من مفردات عالمه الخاص. يقول حزين في أحد مقاطع الفصل الاول من السيرة: «حين جاء خبر موت بافاروتي في سبتمبر 2007 أخرجت قرصاً مدمجاً كان غسان قد أحضره مع عشرات غيره من بيروت، كان القرص يحمل مجموعة من أجمل أغنيات بافاروتي المقتطعة من أوبرات مختلفة. شغلت له القرص طوال اليوم، في الليل وبينما كنا نقوم بعملنا في خدمته، والدته وأنا لمحنا دمعة تترقرق من طرف عينه اليسرى. هل كان غسان المضنى بنفسه السادر في عالمه الخاص حزيناً على رحيل مغنيه الأثير؟».

ورغم أن معظم فصول السيرة لا تبتعد عن مدار الحادث المروع، إلا ان شريط ذكريات الكتاب يعرج على لحظات رائقة، ومواقف مشاكسة سببها الطفل المشاغب غسان، يروي بعضها الاب قائلاً عن ولده الواعي بهويته الفلسطينية مبكراً «حين كنا نذهب إلى شاطئ بحر في الكويت كان يصر على أن بحر فلسطين اجمل، ثم يسألنا إن كان الامر غير ذلك بنبرة تهديد. كانت إجابتنا التي كنا نتمنى نحن أيضاً أن تكون حقيقة أكيدة، هي أن بحر فلسطين أجمل ألف مرة، فنرضيه، ونرضي أنفسنا. وفي أحد الايام دخلنا مطعماً يقدم المشاوي، طلبنا كباباً حلبياً باعتباره اشهى أنواع الكباب، ناهيك عن كونه أشهرها، على الأقل في ذلك الجزء من وطننا العربي الكبير، فأصر على أن يطلب لنفسه كباباً فلسطينياً لم يكن له وجود ولم يسمع به أحد، بما في ذلك النادل الخبير بأنواع الطعام جميعاً». كل تلك المنمنات الحياتية الجميلة وغيرها، يغزلها صلاح حزين مع تفاصيل الألم، سارداً سيرة ذات خصوصية، تليق بصاحبيها (الاب والابن).

 تواريخ

-- 1946 ميلاد الاب في بلدة عين كارم في فلسطين.

-- 1981 ميلاد الابن، في الأردن.

-- 2006 إصابة الابن بحادث مروري.

-- 2007 إصابة الاب بالسرطان.

-- 2009 رحيل الأب.

-- 2010 «غسان قلبي» يرى النور.

 

الأكثر مشاركة