غازي القصــيبي..«مـعارك» تحت راية الكلمة
لم يكن الأديب السعودي الراحل غازي القصيبي، يدرك حين أطلق إحدى نبوءاته الشعرية أن المستقبل سيصدقها، فمنذ أن قال في نهاية الستينات من القرن الماضي: «أحس أن أيامي... صراع دونما غاية.. ومعركة بلا راية.. طواف حول دائرة من الأوهام.. تبدأ كلما قلت انتهت..»، وحتى الأيام الأخيرة قبل غيابه في الـ15 من الشهر الفائت، وهو في سلسلة متصلة الحلقات من الصدامات والأزمات، لاسيما أن القصيبي اختار أن يكون من «أرباب السيف والقلم»، فسدد ضريبة مضاعفة: كصاحب كلمة يدافع عن قيم الحق والخير والجمال والحرية والنور في مجتمع له خصوصية، وكمسؤول ومصلح إداري ووزير قريب من السلطة وأصحاب القرار، بكل ما لذلك من حساسيات.
الحلقة الأولى في سلسلة الصدامات التي فرضت على القصيبي كان عنوانها «معركة بلا راية»، إذ انطلقت فصولها بسبب ديوان يحمل ذلك الاسم صدر في عام ،1971 إذ سعى البعض إلى مصادرة الديوان، وطالبوا بمنع الديوان من التداول، وتأديب الشاعر، ولعل الأخير كان يعني منتقديه بقوله «مضغ القفل لساني.. وأنا أحلم باليوم الذي أنطق فيه.. دون أن أخشى رقيبا.. دون أن يشتمني ألف سفيه».
وروى غازي القصيبي أن «الملك فيصل أحال الديوان لمستشاريه ليطلعوا، ورأى المستشارون أنه ديوان شعر عادي لا يختلف عن اي ديوان آخر، إلا أن الضجة لم تتوقف حول الديوان واستمرت الوفود بالقدوم إلى الملك فيصل، فما كان منه سوى أن شكل لجنة ضمت وزير العدل ووزير المعارف ووزير الحج والأوقاف، لدراسة الديوان أو محاكمته بالأصح، وانتهت اللجنة إلى أن ليس في الديوان ما يمس الدين أو الخلقِ».
واللافت أن ديوان «معركة بلا راية» جاء بعد عملين فاضا برومانسيات رقيقة، وكان الديوان الثالث مليئاً بالمرارات الناتجة عن هزيمة يونيو ،1967 وانكسار أحلام كثيرين في تلك الآونة، وتحذير الشاعر من أن يتحول العرب إلى «هنود حمر»، أمام المستعمرين الجدد من الصهاينة، وانتقاد الوهن العربي عقب «النكسة» في غير قصيدة.
يقول المبدع السعودي في «بعد سنة» «هزمت أشعار عنتر.. رجعت خيل أبي الطيب.. لم تصهل مع النصر المؤزر.. وارتمى سيف أبي تمام.. وارتاع الغضنفر.. وأنا مازلت أحدو النوق.. مازلت.. أناجي البيد.. مازلت أنادي ربع ليلى.. وأنا قلت لليلى: (سوف أصطاد لك الميراج يا ليلى بخنجر)».
«الشهداء»
تاريخ القصيبي مع المعارك والأزمات أخذ بعد حين، شكلاً آخر، فمن إشكاليات الدواوين إلى القصائد، ولعل من أبين أشهر قصائد القصيبي التي تسببت لصاحبها بأزمات «رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة» التي قيل إنها أطاحت بالأديب السعودي الراحل من وزارة الصحة، إذ خرج بسببها من الوزارة إلى منصب آخر في عام ،1984 إذ عين سفيراً للمملكة في البحرين التي كان القصيبي يكن لها مكانة خاصة، وعاش في تلك الفترة متواصلاً مع الحياة الثقافية والأدبية في البحرين، ونشر عدداً كبيراً من إسهاماته في صحافتها.
وفي عام ،2002 نشر القصيبي (أبو يارا وسهيل وفارس ونجاد) على الصفحة الأولى بجريدة «الحياة اللندنية» قصيدته الشهيرة «الشهداء» «قل لآيات يا عروس العوالي.. كل حسن لمقلتك الفداء»، مخلداً فيها ذكرى الفلسطينية آيات الأخرس التي قامت بعملية استشهادية في العام ذاته، وكان القصيبي حينها يشغل منصب سفير السعودية في المملكة المتحدة، وقاد اللوبي الصهيوني في إنجلترا حملات ضارية ضد القصيبي، وهاجمته بعض الصحف التي تقف وراءها جماعات ضغط صهيونية. وتم نقل القصيبي بعدها إلى منصب آخر في السعودية، في خطوة اعتبرت حينها ترضية للمملكة المتحدة، ولتهدئة «الانتقادات» التي سببها الدبلوماسي الشاعر لوطنه، وتسببت في فتور العلاقات بين البلدين وقتها.
حياة
وُلد غازي عبدالرحمن القصيبي عام 1940 في الهفوف التابعة لمنطقة الإحساء في شرق السعودية، وتلقى تعليمه في العاصمة البحرينية المنامة، ثم انتقل بعدها إلى القاهرة التي حصل منها على بكالوريس الحقوق عام 1961 ونال الماجستير من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1964 ثم الدكتوراه من جامعة لندن عام .1970 وتقلب بين وظائف ومناصب عدة، فعمل استاذاً جامعياً، وشغل منصب سفير في البحرين (1984-1992)، وسفير السعودية في لندن (1992-2002). تولى وزارات الصناعة، والصحة، والماء والكهرباء، وأخيراً وزارة العمل التي كان على رأسها منذ 2005 وحتى رحيله. للقصيبي نحو 20 كتاباً منوعة ما بين الشعر والرواية والدراسات والترجمات وأصدر أول دواوينه وهو في الـ20 من عمره، وكان بعنوان «أشعار من جزائر اللؤلؤ»، ويضم قصائد كتبها القصيبي في مرحلة مبكرة من حياته، ثم توالت دواوين «قطرات من ظما، معركة بلا راية، أنت الرياض، الحمى، سحيـم، وللشهداء». أما رواياته فهي «شقة الحرية، العصفورية، سبعة، هما، سعادة السفير، دنسكو، سلمى، أبوشلاخ البرمائي، رجل جاء وذهب، والجنية». وله مؤلفات «التنمية، الأسئلة الكبرى، الغزو الثفافي، أميركا والسعودية، ثورة في السنة النبوية»، والكتاب الذي عرض فيه سيرته الإدارية، وطبع 20 مرة «حياة في الإدارة». وبعد صراع لنحو عامين مع السرطان رحل القصيبي في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض في 15 من أغسطس الماضي. |
«شقة الحرية»
شهدت فترة التسعينات من القرن الماضي محطات عدة لمعارك القصيبي الفكرية، كان اولها في مطلع العقد مع مجموعة من دعاة اختلف معهم المبدع السعودي فكرياً، ورد عليهم في سلسلة مقالات جمعت بعد ذلك في كتاب «حتى لا تكون فتنة»، وفيما كانت عدة القصيبي قلماً وورقة، كانت أسلحة أولئك الدعاة منابر وأشرطة وجمهوراً عريضاً من أنصارهم، ووصلت الحال ببعض المتعصبين وقتها إلى نعت القصيبي بأبشع الصفات، لمجرد أنه خالف أولئك الدعاة، وحاول محاورتهم.
ولم يكن حظ الرواية لدى القصيبي أفضل من أشعاره ومقالاته، إذ منع عمله الروائي الأول «شقة الحرية» الذي صدرعام ،1994 وهاجمه كثيرون، ولم يفرج عن الرواية ويسمح لها بدخول السعودية إلا بعد مرض صاحبها الأخير، وكانت التهم التي تلاحق دوما قصص القصيبي هي «جرأتها، ومشاهدها التي تخدش الحياء، وكذلك أبطالها المتحررون».
وتدور «شقة الحرية» حول مجموعة من الطلبة البحرينيين يكملون دراستهم في مصر، في جامعة القاهرة خلال فترة زمنية، تبدأ من نهاية الخمسينات، وحتى مطلع الستينات من القرن الماضي، تلك المرحلة التي كانت مليئة بآمال كبرى، وشعارات كثيرة، وكذلك مذاهب وأيدلوجيات مختلفة، جعلت كل شخص من شخوص الرواية ينزع إلى سبيل فكري معين، وساعدهم على ذلك المناخ المختلف الذي عاشوا فيه في الجامعة. ورغم أن أبطال الرواية الأربعة خليجيون، فإن العمل تتعددت عوالمه البشرية، إذ يطلع القارئ إلى جنسيات عربية مختلفة التقت جميعها في رحاب قاهرة عبدالناصر بكل ما كان يمور فيها خلال تلك الفترة. وربط نقاد بين بطل الرواية (فؤاد) وغازي القصيبي، ورأوا خيوط تماس بين تلك الشخصية التي درست الحقوق، وسعت لتكوينها الثقافي، ونشرت عدداً من القصص القصيرة، وحضرت جلسات صالون العقاد، وتعرفت إلى نجيب محفوظ وأنيس منصور، وبين الشاعر والأديب غازي القصيبي.
وخلال سنوات عمره الأخيرة، هوجم القصيبي بسبب تقديمه رواية «بنات الرياض»، للكاتبة السعودية الشابة، رجاء الصانع، ذلك العمل الذي صودر ومنع من التداول في المملكة لفترات طويلة، بسبب انتقاد البعض له ممن اعتبروه «مشوهاً» لصورة المجتمع السعودي، وألمح بعض منتقدي القصيبي إلى أن الأخير قد يكون هو مؤلف «بنات الرياض» وليست الصانع.