يوسا.. سارد يقـاوم التعاسة والطغاة
بعد غيابها 20 عاماً عن قارة الواقعية السحرية، تعود جائزة نوبل للآداب، إلى أميركا اللاتينية، متخيرة هذه المرة، ابن السرد البار الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الذي قال غير مرة، إنه يعيش ليكتب، وإذا لم يتمكن يوماً من الكتابة فسيقتل نفسه. صاحب «حفلة التيس» وغيرها من الروايات المميزة، الذي يرى أن الأدب أفضل ما تم اختراعه من أجل الوقاية من التعاسة، يعد واحداً من أبرز الروائيين العالميين، ومبدعاً كان جديراً بالجائزة منذ عقود، وليس خلال العام الجاري، لكن ربما ساعد على ذلك الإرجاء «النوبلي» تشابك الأيديولوجيات، وخلطة التحولات التي شهدتها شخصية باراغاس يوسا: من اليسار إلى اليمين، ومن مناصر لفيدل كاسترو إلى ناقد لـ«عبث هافانا»، ومن مريد في حضرة غارثيا ماركيز، إلى عدو لدود لمبدع «مائة عام من العزلة»، ومن معبّر عن هموم فقراء أميركا اللاتنية ومقاوم للديكتاتوريات والطغاة، إلى مصلح يرتدي منظاراً غربياً ومناصراً للحرب الأخيرة على العراق، ومن كاتب وصحافي وأكاديمي ينتصر على الورق لقيم العدالة والحرية والتغيير، إلى مرشح رئاسي يهزم في الانتخابات في بلاده أمام دكتاتور البيرو البرتو فوجيموري.
إعلان الأكاديمية السويدية يوم الخميس الماضي عن فوز مبدع «شيطنات الطفلة الخبيثة» بـ«نوبل»، ربما كان عزاء لكثيرين، ممن اعتبروا الجائزة صارت ذات توجهات أوروبية صرفة، إذ لم تخرج عن القارة العجوز في الـ14 عاماً الأخيرة سوى مرة، رغم وجود مرشحين دائماً من بلدان الهامش البعيدة، ومن بينهم أسماء عربية أبرزها الكاتبة الجزائرية الفرنسية آسيا جبار، والشاعر السوري أدونيس.
رسائل
بعيداً عن عالم الرواية، جال قلم يوسا في فنون أخرى، من أبرزها القصة القصيرة، والمقالات الصحافية، والبحوث، والنقد، ففي الأخير تميز بشكل خاص كتابه «رسائل إلى روائي شاب»، الذي ضم 12 رسالة للكاتب البيروفي وجهها إلى محبي ذلك الفن الأدبي. وصف يوسا نفسه في ذلك الكتاب بـ«القزم» مقارنة بقامات كتاب عالميين يرنو إليهم، ويستفيد من تجاربهم «فوكنر، هيمنغواي، فلوبير، كامو، بورخيس، ماركيز»، علاوة على كتاب ألف ليلة وليلة.
يجب على الروائي الشاب، حسب وصايا يوسا، أن يعيش «عبودية مختارة بحرية، تجعل من ضحاياها ـ من ضحاياها المحظوظين ـ عبيداً.. فيتحول الأدب إلى نشاط دائم.. إلى شيء يشغل الوجود، ويستغرق الساعات التي يكرسها أحدنا للكتابة، إن من يتبنى هذا الميل الجميل والممتص لا يكتب ليعيش، بل يعيش ليكتب».
تمجيد الحرية الفردية، وكشف زيف انظمة مستبدة، والغوص في عوالم طغاة، كانت تيمات حاضرة في معظم أعمال فارغاس يوسا، ومنارات جذبت إليه جوائز عدة، كان آخرها نوبل التي ذكرت أن الكاتب البيروفي حاز الجائزة «لتصويره المفصل لهياكل السلطة، وصوره المحدة المعالم للمقاومة والتمرد والهزيمة عند الفرد».
في وطنه، وكذلك في بلدان أخرى في قارة أميركا اللاتينية التي تتجاور فيها الثورات مع الدكتاتوريات، عاصر يوسا عهود قهر، وزعماء سلبوا أفراد شعوبهم حرياتهم، ولذا تصدى قلمه مبكراً لتلك الظاهر، فالرواية الأولى التي عرَفت به عالمياً «المدينة والكلاب ـ 1962» استمد الكاتب أحداثها من تجربته في أكاديمية ليونشيو برادو في العاصمة ليما، وهي مدرسة ثانوية يديرها عسكريون، إذ تقوم مجموعة من الطلبة بمحاولة سرقة امتحان، وتقع المهمة على عاتق طالب بعينه، آتٍ من منطقة جبلية، وتكتشف المهمة، ويعاقب جميع الطلبة، بعد وشاية من احد زملائهم، فيقرر بعضهم قتل ذلك الواشي، والرواية مليئة بالعنف الذي فرضته الظروف على مجموعة فتيان كان يفترض أن يظلوا أبرياء. يذكر أن الرواية أثارت جدلاً عقب صدورها، إذ أحرقت 1000 نسخة منها علناً من قبل ضباط في تلك الأكاديمية العسكرية.
«حفلة التيس»
أما رواية «حفلة التيس ـ 2000» فولجت دهاليز عالم المستبدين بتفصيل أكبر، وبنفس أطول، إذ تدور أحداثها في منتصف القرن الماضي في جمهورية الدومينيكان، خلال حكم الطاغية تروخييو (1930 ـ 1961) الذي جعلته بطانته، كما في الرواية، أحد الاستثناءات في التاريخ، الإسكندر الأكبر، أو نابليون، أو بوليفار، وأضفت عليه من الأساطير ما يبث الرعب في نفوس محبيه ومناوئيه على السواء، فهو الزعيم والمنعم وأبوالوطن الجديد والجنرال، والدكتور، وصاحب المشيئة الذي لا تصيبه قطرة عرق، حتى لو ارتدى ملابس صوفية ثقيلة في عز الصيف، وبإرداته، أيضاً، يتعرق حين يمارس ألعابه الرياضية بعيداً عن الاختلاط بأحد، و«فحل» المغامرات السريرية، الذي لا يعرف النوم سوى أربع ساعات في اليوم.
محطات حياتية ولد ماريو فارغاس يوسا في مدينة اريكيبا جنوب البيرو، في 28 مارس عام ،1936 وتنقل في طفولته بين محطات عدة في بوليفيا والبيرو. درس في الأكاديمية العسكرية ليونثيو برادو في ليما، وحاز شهادة ليسانس في الآداب من جامعة سان ماركو في ليما، ثم حصل على منحة مكنته من مواصلة دراساته حتى حصل على الدكتوراه من مدريد.. وحاز العديد من الجوائز بدءاً بجائزة ليوبولد آلاس، عن أول مجموعة قصصية صدرت له عام 1959 بعنوان «القادة»، وجائزة ثيرفانتيس المرموقة. ترجم انتاج فارغاس يوسا الذي يضم نحو 30 عملاً بين الرواية والدراسة والمجموعة القصصية والمسرح في العالم بأسره، ويرد اسمه بانتظام منذ سنوات بين المرشحين لجائزة نوبل. ومن أبرز أعمال يوسا الروائية «البيت الأخضر ـ 1966»، «محادثة في الكاتدرائية ـ 1966»، «حرب نهاية العالم ـ 1980» «قصة مايتا ـ 1984»، «ليتوما في جبال الأنديز ـ 1995»، «الفردوس على الناصية الأخرى ـ 2001»، ومن المقرر أن تصدر رواية جديدة له بعنوان «حلم السلتي» في الثالث من الشهـر المقبـل.
|
وتسهب الراوية في حكايات الطاغية، فهو ربيب المارينز الأميركي المخلص، وعميل الولايات المتحدة في المنطقة، ومرتكب المجازر ضد معارضيه، وفي حق عشرات الآلاف من الهايتيين اللاجئين في بلده، ومدبر اغتيالات داخل وطنه وخارجه، وقبل كل ذلك المستبد الذي سلب أفراد شعبه حقهم في الحرية، والحياة الكريمة الآمنة. يشرح قلم فارغاس يوسا نفسية الطاغية، ويغوص في أعماقها بحيادية حيناً، وسخرية أحياناً أخرى، فذلك المذل لشعبه، والمتحكم في مصير الملايين، غير قادر على التحكم في ذاته، بعد أن اصابه السلس البولي، ما وضعه تحت قهر وسواس، وجعله يفقد جزءاً كبيراً من ثقته بذاته، لا سيما بعد أن انضم إلى مرضه العجز الجنسي.
شخصية الحكاية الرئيسة هي أورانيا التي كانت إحدى ضحايا المستبد، والتي قدمت قرباناً وهي طفلة، كي يرضى الحاكم عن أبيها الوزير المغضوب عليه، تعرضت البطلة لقصة مأساوية، إذ اغتصبت بشكل حيواني من قبل الزعيم، بعد أن اكتشف إصابته بعجز أمام الصغيرة التي لجأت إلى مدرسة راهبات، وهربت بعد ذلك إلى أميركا، ولم تنس حتى بعد مرور أكثر من 30 عاماً على واقعة الحادثة، تفاصيلها المأساوية، ولم تغفر لأبيها، وقررت أن تعاقبه، ولم تبدِ اي تعاطف معه، حتى وهو مقعد شبه ميت، بعد اغتيال الطاغية بسنوات. عالم هائل متشابك، وشخصيات كثيرة تضمها رواية «حفلة التيس» (439 صفحة من ترجمة المبدع صالح علماني): طاغية، وتابعون، وأفراد خائفون، ومقاومون مخلصون، وطاغية جديد يخلف المستبد القديم، وغيرهم، ممن صورهم يوسا في روايته، وحرص على تتبع ماضيهم، وكذلك ما آلوا إليه.