«زمن جميل»..عصفور يسترجع زهرة العمر
أمام واقع مختل، وحاضر شحيح بلحظات البهجة، يكون في استدعاء الماضي، إحياء لزهرة العمر التي قد تعطر خريفه، ونبش في صندوق العيد المكتنز بالذكريات المفرحة، كما فعل الناقد المصري جابر عصفور في كتابه «زمن جميل مضى»، والذي يتأمل فيه بعض فصول حياته، ويسترجع ماضيه الشخصي في فترة الستينات «الذهبية»، معتبراً أن ذلك لا يعد هروباً، أو حنيناً هشاً إلى الرحم الأولى، والأيام التي لن تعود.
من قبل عام 1944 (السنة التي رأى فيها عصفور الابن النور)، كان لسان عصفور الاب يلهج بالدعاء، من أجل أن يُرزق بابن، متوسلاً بـ«بركة سيدي جابر»، صاحب المقام في مدينة الإسكندرية، حتى بعد أن ترك الوالد الثغر، ورحل إلى مدينة المحلة الكبرى في دلتا النيل، كانت له زيارات إلى ذلك «الولي» ليفي بنذر قطعه على نفسه، خصوصاً بعد أن رزق بتوأم، سمى أحدهما سيد، والآخر جابر، ليجمع الشقيقان معاً اسم صاحب المقام، لكن شاءت الأقدار أن يرحل الأول مبكراً، كما روى جابر عصفور1 في مستهل كتابه في فصل بعنوان «ذكريات عائلية».
دعوات الاب لم تتوقف، إذ كان عصفور يسمع والده دوماً يبتهل بأن يحقق ابنه حلماً كبيراً، وتصير له مكانة خاصة «وأن يمد الله في عمره حتى يراه مثل طه حسين»، ورنت الدعوة المتكررة للأب في قلب صغيره، حتى قبل ان يعلم أن حسين هو عميد الأدب العربي، والأزهري الحاصل على دكتوراه من السوربون، ووزير المعارف صاحب المواقف الذي طالب بمجانية التعليم، وأن تصير المعرفة كالماء والهواء، كي يستطيع أبناء الفقراء الحصول عليها.
مع العميد
طغى حديث عصفور عن طه حسين على غيره، ربما اكثر من ذكرياته عن أبيه وعبدالناصر وعبدالحليم حافظ وغيرها من الشخصيات التي استعادها الكاتب من زمنه الجميل، إذ مثل الأول قيمة وقدوة، وفي بعض الاحيان نموذجاً يغيّب وجه عصفور الأصلي، لاسيما أنه يعده «كائناً استثنائياً»، ملك وجدانه منذ ان وقعت عينه على «الايام» السيرة الذاتية لعميد الادب العربي، ذلك الكتاب الذي حبب عصفور في حرفة الأدب، وجعله يحلم بدخول قسم اللغة العربية في كلية الآداب كي يلتقي صاحب «دعاء الكروان»، و«شجرة البؤس» و«في الشعر الجاهلي» و«على هامش السيرة» وغيرها من الروائع.
دخل عصفور، الذي حل ضيفاً على معرض الشارقة للكتاب أخيرا، كلية الآداب، ولكنه لم يلتقِ استاذه الكبير كما تمنى، إذ تأخر اللقاء إلى ما بعد التخرج، عندما صحبته الدكتورة سهير القلماوي بعد أن رأت افتتانه بطه حسين، وحفظه لكتبه إلى موعد مع عميد الأدب العربي الذي تنبأ لمريده (عصفور) بأنه سيكون له إنجاز في النقد الأدبي، سيما بعد أن حاوره، وسمع بعض آرائه التي يعترف عصفور بأنها كانت خارجة بصوت مرتعش، لأنه كان في حالة من الانبهار والغياب والشجن والمشاعر المتضاربة.
يستذكر صاحب «زمن جميل مضى» في مقالة بكتابه الفصل الاخير من حياة عميد الأدب، واصفاً حزنه في تلك اللحظة التي سمع فيها بأن استاذه كان يعاني ضائقة مالية، في غفلة من المسؤولين، وكذلك يصف مشاعره في جنازة طه حسين قائلاً «خفف عني المرارة.. ما رأيته وشعرت به في جنازة طه حسين المهيبة، فقد خرج جثمانه محمولاً على أكتاف أساتذتها، من حرم جامعة القاهرة.. وامتدت الجنازة التي لم أرَ مثلها لأحد من كبار الأساتذة إلى اليوم، وسارت من أبواب الجامعة مارة بتمثال نهضة مصر الذي ابدعه محمود مختار، النحات الذي كتب عنه طه حسين تقديراً وإعجاباً.. وكنت أبكي على جدي الذي فقدناه، منارة لا مثيل لها من منارات الاستنارة في الثقافة العربية بأسرها». واختير عصفور ليلقي كلمة الحفيد في تأبين الجد الراحل خلال احتفال أقيم لإحياء ذكرى حسين في كلية الآداب. ولم تنتهِ ذكرياته مع طه حسين عند ذلك اللقاء،إذ ظل الود موصولاً بينهما، ولكن على الصفحات هذه المرة، فقد ألف عصفور كتابه «المرايا المتجاورة» محللاً وناقداً لـ«حديث الأربعاء» لطه حسين.
عراب الرواية
عرَاب الرواية الذي أغضب( كثيرين من الشعراء حينما رأى أن المستقبل لذلك الجنس الأدبي، وأنها ديوان العرب المعاصر، وليس الشعر كما كان قديماً، وتبنى ذلك في كتاب له بعنوان «زمن الرواية» (1999)، يحكي في «زمن جميل مضى»، بدايات تعلقه (السرديات، وهو صبي يبحث في شوارع مدينته المحلة عن مكتبة، أو عربة قديمة عليها مؤلفات أدبية، ليستأجرها أو يستعيرها او يشتريها، وفق ما تيسر له حينها من قروش قليلة، وفي سنوات المراهقة والحلم وقع الصبي أسيراً لغواية الرواية، خصوصاً بعد أن اقتنى «ألف ليلة وليلة»، وعرف طريق عربة العم كامل الذي كان يعيره كتباً كثيرة، ليكتشف عصفور عوالم كثيرة، ويصير زبوناً دائماً على العم كامل ومكتبات المدينة المختلفة أيضاً.
بعد القراءات الطويلة في المرحلة الثانوية وجد عصفور نفسه تحن إلى الكتابة، وشعر باختمار بعض المشاعر الفائضة التي تبحث عن فضاء ابيض تخرج إليه، وأمسك بالفعل بالقلم وسطرها، خرج بعضها في قوالب نثرية، وأخرى في صور كلامية تصف الحب الأول، واوهام تلك المرحلة من العمر، وكذلك تحاول أن تحلل شخصيات وقعت عين المراهقة عليها، وأولها أبوه الذي استفحل مرضه في تلك الفترة واجرى جراحة بعد أن أصيب بالسكري، وخوف الولد على والده، ويكمل عصفور نحو 20 صورة أدبية عن شخصيات مختلفة عاصرها وراقبها وهو في محل أبيه واطلق على كشكوله الأول الذي لم ينشره اسم «في السوق».
دراسات وتكريمات
للأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي عمل أستاذاً للنقد الأدبي في جامعات عدة، ويشغل حالياً منصب مدير للمركز القومي للترجمة في مصر، الكثير من المؤلفات التي من بينها «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، مفهوم الشعر.. دراسة في التراث النقدي، التنوير يواجه الاظلام، محنة التنوير، دفاعاً عن التنوير، أنوار العقل، أوراق ثقافية، النقد الأدبي والهوية الثقافية»، بالإضافة إلى العديد من البحوث والمقالات والمؤلفات المترجمة. حاز عصفور الكثير من الجوائز والتكريمات، من بينها جائزة سلطان العويس، وكان آخرها جائزة القذافي العالمية في دورتها الأولى العام الماضي. |
يلقي عصفور الضوء في «زمن جميل مضى» الذي يضم مقالات نشرت في أكثر من صحيفة ومجلة عربية، على كتاباته المنوعة الأولى، نقدية، وإبداعية، ومن بينها قصيدة سطرها وهو في نهاية المرحلة الجامعية، ويعترف بأنه كان متأثراً بشاعره الأثير خلال تلك الفترة صلاح عبدالصبور.
ناصر
بعد أن أنهى عصفور مرحلته الجامعية بتفوق، الأول على دفعته، وعلى كليات الآداب على مستوى الجمهورية (يونيو 1965)، انتظر أن يتحقق حلمه بالتعيين في الجامعة، ولكن أغلق باب التعيين في وجهه، وحاول البحث عن عمل كي يعيل نفسه على الأقل، ويخفف عن عائلته التي كانت تقتصد من قوتها كي توفر له سبل التفوق، لكن عجز عن تحصيل اي فرصة، إذ كان البعض يرى في تقدير الامتياز الذي حصل عليه ولم يستطع التعيين في الجامعة ما يدعو إلى الريبة، وبعد التقدم إلى أكثر من وظيفة، التحق عصفور معلماً للغة العربية في إحدى مدارس الفيوم، وظل أشهراً يعاني جراء ذلك العمل، خصوصاً بعد أن أهانه أحد المفتشين وأشعره بأنه معلم ضعيف، يفصل عصفور تلك اللحظة المتأزمة قائلاً في فصل بعنوان «الإحباط الأول»: «وصل إحساسي بالظلم إلى مداه، وجلست استرجع الأحلام الوردية على مصراعيها، والواقع المقبض الذي أصبحت أعايشه، ولا أدري كيف تسلل إلي صوت جمال عبدالناصر يلقي إحدى خطبه، اخرجني كلام الخطبة من التداعيات الحزينة التي انغمست فيها، وبدأت أستمع لحديث عبدالناصر عن العدل الذي لابد من تحقيقه، وقلت لنفسي: هذا الرجل يتحدث عن عدل غير موجود، ويتوهم وجود نظام عادل يرأسه مع أن كل ما حولي يؤكد الظلم. ولم أدرِ إلا وأنا أمسك بالقلم، وأكتب له في الصفحة الخالية أمامي من كراسة التحضير خطاباً عن العدل الغائب، شارحاً حالتي.. وبعد ان انتهيت من كتابة الخطاب، وأفرغت انفعالي فيه وضعت الخطاب في مظروف، وألصقت عليه طابع بريد، بعد أن كتبت عنوان رئاسة الجمهورية».
وبالفعل حصل عصفور على حقه في التعيين في 19 مارس ،1966 بعد شكايته لعبدالناصر، الشخصية التي حضرت بشكل مكثف أيضاً في الكتاب، إذ انغمس ومعظم جيله في أحلام تلك المرحلة، إلى أن استفاقوا على كابوس هزيمة .1967
ذكريات عصفور في «زمن جميل مضى» (الصادرة طبعته الثانية عن الدار المصرية اللبنانية أخيراً في 455صفحة) كثيرة، وتفاصيلها متشعبة، نظراً لازدحام تلك المرحلة، فترة الستينات من القرن الماضي، بالأحداث، ورغم تكرار بعض المشاهد، وسردها بأكثر من رواية أحياناً، إلا أن الكتاب، كشف عن وجه عصفور الحميم، المستتر وراء رزانة شخصية الناقد، ومنح لقلم الأكاديمي المنهجي بعض الحرية، بعيداً عن التحليل العلمي للنصوص.