100 سؤال شائـك.. إلا على أدونيس
تحوّل موقع صاحب «الثابت والمتحول» من طارح الأسئلة المؤرقة للمطمئنين، إلى مسؤول تنتظر إجاباته، في كتاب «أحاديث مع والدي» للكاتبة والفنانة نينار إسبر، التي أعدت لأبيها المفكر والشاعر السوري علي أحمد سعيد (أدونيس) نحو 100 سؤال، تطرقت أغلبيتها إلى مناطق شائكة جداً، متنقلة بين الخاص والعام في الحياة، واضعة حامل لواء التمرد والحداثة الشعرية، في تجربة خاصة، وجهاً لوجه أمام ابنة «مستفزة»، ترفع شعار «لن أعيش في جلباب أدونيس» وفي الآن ذاته؛ تعتبره حاميها في زمن متعصب.
نينار تشبه أباها ولا تشبهه، تحبه لكنها تعاتبه، تعترف أمامه بسعاداتها الصغيرة، ومغامراتها وأحلامها الجريئة، لكنها في المقابل تأبى إلا أن تجلسه على كرسي اعتراف، ليبوح لها بتفاصيل حميمة ربما لم يكشف عنها الشاعر والمنظر السوري في نص شعري أو نثري من ذي قبل. ويعد الكتاب الصادر عن دار الساقي في بيروت ولندن، حواراً طويلا، موزعا على 10 فصول، بين جيلين، ومدرستين مختلفتين: نينار الشابة الثلاثينية الصادمة أحيانا، الثائرة حتى على كتابات أبيها، إذ تبوح بأنها لم تقرأ اشعاره، ولم ترق لها أعمال أصدقائه من الرسامين والمبدعين، وتتعجل تغير الصورة كليا في العالم الإسلامي، وتقارن دوما بين ديكتاتورية المشرق، وليبرالية مدينة النور باريس التي تقيم فيها مع والديها منذ فترة طويلة، بينما على الضفة الأخرى، حافظ الأب أدونيس على صوته الهادئ، وضبط دفة الحوار التي جنحت بها ثورات نينار، كي تأخذ الأحاديث شكل محاورات بين صديقين وليس منافرات، ونجح في ذلك إلى حد كبير رغم إلحاح الابنة واستفزازاتها، وإن استعان في بعض الأسئلة بالإيجاز، أو بقوله «ما عدت أتذكر تلك الفترة». ولم تسلم الاحاديث من النصائح الحانية، فقبل الشعر والفكر، مشاعر الأبوة واحدة، سواء كان الشخص فيلسوفاً يحترم اختيارات بنيه، او عاملا باليومية يقسو عليهم.
المتمرّدة الشابة
هالات أدونيس وأكثر من نصف قرن من الإبداع، لم تغيب ملامح المتمردة الشابة، والكتاب الذي جرى تياره في مسارين لم يمتزجا في أحايين كثيرة، كما كشف عن مساحة جديدة في عقل الأب ووجدانه، أظهر وجه نينار التي فرضت حضورها، وفضفضت بلا وجل إلى القارئ، وإلى من كانت تحاوره، فالمسؤول تحول إلى سائل في بعض صفحات الكتاب، خصوصا في فصله الأخير، فربما كان يتعرف إلى قلب وعقل ابنته بشكل أعمق من جديد، ووجد الفرصة في تلك الجلسات، معتذرا من ابنتيه (أرواد الكبرى، ونينار) ، معترفا بأن تأمين متطلبات الحياة غيّبته عنهما طويلا.
تقول نينار في مقدمة كتابها الذي صدر عام 2006 بالفرنسية وترجمه أخيرا حسن عودة: «عزمت على إجراء هذا الحوار مع والدي، أدونيس، لأنني كنت بحاجة إلى معرفته، وإلى قضاء بعض الوقت معه على الأخص. كنت أود ان يحدثني في امور شتى، وأن يجيب عن أسئلة أطرحها بوصفي ابنة ابنته، وليس بوصفي صحافية أو مثقفة أو كاتبة.. كنت أريد أن أطرح عليه اسئلة بسيطة وأسئلة معقدة، أن أملك الحق بأن أوجه إليه أسئلة جوفاء، أو بليدة غبية، أو ساذجة، أو ذكية، دون أن تقيدني أية رقابة ذاتية، ولا تتحرى أسئلتي هذه رؤية أدونيس السياسية، وليس لها اية علاقة بكتاباته، وإنما هو كإنسان وكأب وكشاعر». وترى الابنة أن غيابات الاب المتكررة، ما بين كتبه ومشروعه الشعري والفكري، وارتحالاته بين بلدان كثيرة، نظرا لبرنامج عمله، ومحاضراته ولقاءاته، ترى أن ذلك منحها فرصة لتطوير شخصيتها، والاعتماد على ذاتها، والترعرع بمنأى عن ظل صورة الوالد «هائلة الأبعاد» والأسطورية لدى بعض محبيه.
حوارات حميمة
تترى الموضوعات التي تتطرق إليها مقابلات نينار وأدونيس، وتسير بشكل متداعٍ حر، فهي «أحاديث» حميمة، كما جاء في عنوان الكتاب، وليست حوارات غير مسموح لها بالحياد عن الأسئلة الـ100 التي أعدتها الابنة، ولذا توجد فواصل واستراحات كثيرة بين فصول الكتاب الذي يقع في 239 صفحة من القطع المتوسط.
يشرق «أحاديث مع والدي» ويغرب بين أمور كثيرة، بدءا من الهموم الثقافية والاجتماعية والسياسية العربية، مرورا بالحس الجمالي والأخلاقي والحياة والموت والحرب الأهلية في لبنان التي ولدت فيها نينار، وصولا إلى الأمور الشخصية واليومية العادية في حياة كل من الوالد والابنة، إذ تستطلع نينار آراء أدونيس في نشأته وعلاقته بأبيه، وثقافته، وعن أثر الدين، ورؤيته للمرأة، وأحمر شفاه وعلاقته بالانثى ونظرته إليها، وتعرض الكاتبة أيضا وجهة نظرها في كل ذلك راسمة صورة كاملة لرأيها في كل ما يقوله والدها.
في الفصل الأول «شاب إلى الأبد» تضع نينار أمام والدها إشكالية الشباب والشيوخ، يأخذ الأب (الشيخ) الحديث منحى مختلفا، إذ يرى انه لا انفصام بين المرحلتين «في ما يخصني أنا فإنني إذا لم أكتب أحس بأن حياتي فارغة من المعنى؛ لأن الكتابة تتيح لي أن أفهم نفسي، وأن أفهم على نحو أفضل العالم الذي أحيا فيه، تتيح لي الكتابة أن أرقى بحياتي، وأن أوسع حدودها، وأن أقدم صورة أخرى للحياة وللعالم، لعلها تفيد أولئك الذين يميلون إلى الانفتاح والتأثر.. لهذا السبب أقول إن الشباب والشيخوخة مترابطان أوثق ارتباط».
«ليل أول» ولدت نينار إسبر عام 1971 في بيروت، انتقلت مع والديها، أدونيس، والأديبة خالدة سعيد، واختها الكبرى للاستقرار في باريس، عملت صحافية في جرائد ومجلات عدة، كما أنها تشكيلية اشتركت أعمالها في معارض عدة، خصوصا في باريس التي تستقر فيها، وسينمائية وفنانة استعراضية، ولها أعمال فيديو مهمومة باتجاهات الفن التجريدي، ولها رواية بعنوان «ليل أول» صادرة عن دار النهار اللبنانية، أما «أحاديث مع والدي» فيعتبر أول مؤلف مشترك بينها وبين والدها أدونيس.
|
سكة منافي
يتطرق الحديث إلى الجذور والعائلة، لاسيما علاقة أدونيس بأبيه، والخطوة الأولى في سكة المنافي، حينما ترك ابن الخامسة عشرة قريته النائية وأهله كي يلتحق بمدرسة في المدينة، وكرت سبحة المدن التي حل بها الشاعر مغترباً، من دمشق إلى بيروت، واستقرارا في باريس، يقول صاحب «اغاني مهيار الدمشقي» رداً على سؤال لابنته: «طوال حياتي كان لدي شعور بأن الذي أخطو فوقه يمضي نحو المنفى، منذ أن كنت في سورية ظل الشعور بالمنفى يلازمني، حيال قريتي، وحيال مجتمعي، وحيال الأدب والفكر الذائع في ذلك الحين. كنت دائما على الهامش، ليس في الوسط، وإنما على الهامش، وهو ما أتاح لي ان أصنع شيئا مختلفا. من القرية إلى المدينة، ومن المدينة إلى العاصمة، ومن دمشق بعد ذلك إلى بيروت، وفي ربوع لبنان نفسه كنت أنتقل من منطقة إلى أخرى ومن منزل إلى آخر. حياتي كلها رحيل نحو المنفى، وداخل المنفى، ولغتي العربية تحولت أيضا إلى منفى، فأنا منفي داخل هذه الجزيرة المرسى التي يسمونها اللغة».
تمضي الفصول، ساردة قناعات الوالد والابنة، يكشف كل منهما بصدق شبه مطلق عن اختياراته في الحياة، تجمع بين المتحاورين قيم التسامح واحترام الآخر، ومحاسبة الذات والتواضع، كما كشف الاثنان في إحدى الجلسات. تنبش نينار في ذاكرة أبيها القروية، ترجعه إلى الجذور، يبوح الأب بحنينه إلى ذلك المكان، بأنه يتمنى العودة إليه كي يوارى فيه «ارغب في أن أدفن في ربوع قريتي.. ليس بوسعنا أن نختار مكان ولادتنا وإنما مكان موتنا». فنحن نملك اختياره. ذلك ما أفعله أنا أختار ذلك مكان موتي».