عبده وازن يسرد تجربته مع «العالم الأبيــض» و«الماضي الفردوسي»

«قلب مفتـوح» يــلامس الغياب ويكتشف هِبات الحياة

عبده وازن: اخترع عالماً لا يبصره سواي. الإمارات اليوم

من منطقة برزخية شحيحة الضوء، تتوسط عالمي الحضور والغياب، انطلق الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن في كتابه «قلب مفتوح»، محتفياً بالحياة، ومستكشفا من جديد لهباتها، فبعد أن أطل وازن على بوابة الموت، أثناء رحلة علاجية حساسة، أجرى خلالها جراحة قلب مفتوح، سرد بروح شاعر لم يغير جلده، انطباعاته عن اللحظات العصيبة، والغيبوبة التي مر بها، وتفتح روحه، أثناء فترة إقامته بين «الأسرة البيضاء»، وغرف العناية المركزة، على عوالم أخرى تستحق الاحتفاء بها، مؤكدا حضوره بالكتابة: «أعلم فقط أنني لو لم أكتب لما خرجت من هاوية الجسد المعطوب، من حفرة الغياب الذي لا صفة له، من لجة النسيان الذي يشبه الموت. الكتابة قادرة حقا على وقف نهر الزمن، النهر الذي لا ضفتين له، المتجه نحو الموت أو ما شابهه. الكتابة تحوّل وجهة الزمن».

في حكي متحرر من قيود الزمان والمكان واللون الأدبي المحدد وعناوين الفصول كذلك، تتداعى ملامح من سيرة وازن الذاتية في كتاب «قلب مفتوح»، متداخلة مع ذكريات من أسلم الجسد لشفرة الممرض، ليجهزه لمشارط الأطباء، ولتحضر في المشفى الحبيبة الأولى بثوب أبيض يتلاءم مع مفردات ذلك العالم، والحرب الأهلية التي فرقت العاشقين الصغيرين، والفتى اليتيم الذي كانه الشاعر اللبناني، وعلاقته بأسرته، وحكايات مشوقة، وتأملات تبوح بذات صاحبها، وتكشف بصدق غير احتفالي ما يعتمل في نفس وازن، بشكل افضائي غير معني بإرضاء فضول القارئ، ولا بالرغبة في استدرار شفقته، ولا بنسج تفاصيل رواية متسلسلة الأحداث.

إبداعات وترجمات

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/326254.jpg

عبده وازن شاعر وكاتب لبناني، مسؤول الصفحة الثقافية في جريدة الحياة اللندنية. من أبرز مؤلفاته «الغابة المقفلة»، «العين والهواء»، «حديقة الحواس» الذي منعته الرقابة اللبنانية عام ،1993 «نار العودة»، «حياة معطلة».

صدرت مختارات من شعره بالفرنسية، ومختارات بالبرتغالية. وترجمت بعض قصائده إلى اللغتين الإنجليزية، والإسبانية. وترجم قصائد ونصوصاً من الفرنسية إلى العربية.

يقول وازن: «أكتب الآن، أحلم، اغمض عيني لأتوهم ما يحلو لي أن أتوهمه، يقظا، اخترع عالما لا يبصره سواي. إنها الكتابة الوجه الآخر للحلم، أستعيدها مستعيداً خيط الأحلام التي تحلق في سمائي مثل طيارات من ورق. أكتب، ماذا أكتب؟ لا أدري اعرف فقط أن القلم يوشح الورقة البيضاء بحبر ليس بأسود، بحبر أبيض من الورقة نفسها. لماذا أكتب؟ لا أدري أيضا، ولا يهمني أن أعلم لماذا. الكتابة لا تحتاج إلى من يسأل عنها، ولا إلى من يبررها»، ولذا لن يجد مطالع الكتاب إجابات لأسئلة ربما قد تراوده من قبيل: كيف وصل الشاعر إلى تلك الحالة؟ ولماذا لم يفصل احداث ما قبل الجراحة، وما بعدها، ووقع ذلك عليه وعلى من حوله؟ وكيفية الخروج والتعافي بشكل تام؟

شخص «منذور»

يسترسل وازن، وهو على عتبة الخمسين من العمر في حكايا «الماضي الفردوسي»، إذ تطرق نافذة ذاكرته وهو على سرير الشفاء، وجوه من زمن الطفولة (الأبيض أيضا): الأب والأم والشقيقات، والجارات والراقيات للمصابين بالعين، ورفقاء الطفولة، وكيف كانوا خلال الصبا يعشقون التلفزيون، ويحلمون بأن يخرج أبطال ذاك الصندوق السحري، أو يدخلون هم إليهم ليشاركوهم مغامراتهم، مشيرا إلى الكآبة التي كانت تتلبسه حينما توضع قماشة رمادية فوق التلفزيون، حداداً على جار أو قريب فاضت روحه، وتزداد الكآبة حينما تتشح النساء بالاسود.

فقد وازن اباه وهو صبي، واكتسب صفة اليتيم مبكرا، وصار هو وشقيقاته «أبناء المرحوم قيصر».. كره ذلك اللقب الذي منحته الحياة له، وكره أكثر مشاعر الشفقة التي كان يعامله بها البعض، وصرح في الكتاب الجديد بأنه لا يتذكر كثيرا من ملامح الأب، الخزّاف الذي ترك عمله إطفائياً بعد تعرضه لحادث كاد أن يودي بحياته.

يكشف وازن في «قلب مفتوح» الصادر مطلع العام الجاري عن منشورات الاختلاف في الجزائر، والدار العربية للعلوم (ناشرون) في بيروت في 208 صفحات، يكشف عن أنه عاين الموت، ونجا منه قبل جراحته الحساسة الأخيرة، يروي تلك الحكاية القديمة: «كان يقال لي دوما منذ أن فتحت عيني على الحياة، إنني شخص (منذور)، وإن الحياة التي أعيشها منحت لي مرة ثانية بعدما قاربت الموت ونجوت بأعجوبة». فحينما كان طفلاً في الخامسة، أصابته رصاصة استقرت اسفل كتفه الأيسر، وهو نائم على سطح منزله وسط شقيقاته، ووصف الطبيب الذي هرعت إليه الأسرة لإسعاف الابن، نجاة الطفل بالأعجوبة، وقال للأم: «أنت محظية، ابنك أنقذ من الموت، بين الرصاصة والقلب شعرة»، وتقطع الأم نذراً على نفسها، وتظل ملتزمة بالوفاء به حتى رحيلها.

يسترسل وازن في عرض صور ومشاهد من الطفولة، خصوصا ما يتعلق منها بالموت (الذي يترصده)، يعيد رسم طقوس اختزنتها الذاكرة الأولى عن مشاركته في «عيد الموتى»، وزياراته للمقابر مع ابناء بلدته، وحضوره جنازات: «أتذكر مشاهد الطفولة، هذه المشاهد الأليمة التي أخبئها في ثنايا القلب، مرة تلو مرة، وأحار أنا الذي نهض للتو بأعجوبة، وفتح عينيه على الضوء، ضوء الحياة المنتصرة. هل لأنني قاربت الموت احتفل بالمعنى الجوهري للحياة مستعيداً تلك الذكريات التي تمر في البال، وكأنها أحلام حلمتها بعينين مفتوحتين». وبعين طفولية يجرد وازن الموت من الكآبات، وملابس الحداد، ويحيله إلى حدث يبدو عاديا، مستدعيا فرحته هو ورفاقه الصغار حينما كانوا ينتظرون وفاة أحد الأثرياء، كي يتقدموا جنازته حاملين أكاليل الزهور، وبعد الدفن يحصلون على أجرتهم، ليرة «كافية لشراء حلوى أو ألعاب صغيرة»، كما فتحت المآتم للصبية باباً للتسلية، والتهام السندويتشات، وتناول بعض المشروبات التي لا يحلمون بها إلا في تلك المناسبة الحزينة مجاناً.

كائن مسالم

في «قلب مفتوح» يسقط عبده وازن كثيرا من الحواجز، ويعكس مرايا ذاته بدرجة عالية من الصدق، فيبوح دونما مواربة بتفاصيل خاصة، بداية من علاقته بأبيه وأمه، ومكانة كل منهما في حياته، مرورا بمغامرات المراهقة الأولى، والنسوة اللاتي عبرن حياته، وانتكاسة الانهيار العصبي التي تعرض لها في مطلع الثلاثين من العمر، وجعلته يفكر بشدة في الانتحار، الخيار الذي جبن عن تنفيذه خلال مرحلة من حياته، وصولا إلى فكرة الوطن، ورمزيتها وما آلت إليه حقيقة.

لا يدعي وازن بطولة ما، ولا يختلق مواقف كبرى، فهو لم ينضوِ تحت راية طائفة معينة، ولم يكافح مع حزب ما، خلال الحرب الأهلية في منتصف السبعينات، بل على العكس، صرح ذلك الكائن المسالم بأن أعوام الحرب الطويلة بدأت وانتهت، ولم يطلق رصاصة واحدة، ولو في الهواء، مضيفا «كنت أخاف صوت الرصاص أكثر مما أخاف الرصاص نفسه.. وكنت كلما كبرت ازداد جبناً. وأذكر كيف كنت في الأعوام الأخيرة للحرب من أوائل المختبئين عندما يبدأ القصف الذي لم يكن يرحم البشر ولا البيوت ولا الأشجار.. لا اريد أن أتذكر الحرب، إنني أكرهها، لكن طعمها المر لا يفارق شفتي، ولا سوادها عيني».

ويستطرد وازن «فحربنا هي من الحروب التي لا تنتهي ولو سكتت مدافعها. والسلم الذي نعيشه ليس بسلم حقيقي لأنه يخفي في ثناياه جمر الكراهية والخوف والحقد الدفين.. إذ لم يكن هذا الوطن لنا نحن أبناءه الغرباء فلمن تراه يكون؟ لبنان ليس لنا، ولو لم يكن هو وطناً لنا لما اخترته وطناً. لست بخائن لكنني لست بوطني. لقد سئمنا. هذا وطن يدعو إلى السأم. هذا ليس وطناً، بل فكرة جميلة عن وطن، تظل فكرة لشدة جمالها.

كأن لبنان لم يكن يوما، بل كان ظلا لوطن مفقود.

الحرب زرعت فينا شعلة الشك هذه».

تويتر