زيدان يمزج في «النبطي» ما بين الشخصيات الخيالية والتاريخية. أرشيفية

«النبطي».. على درب «عزازيل»

لا شعورياً، ربما يجد قارئ ما ذاته محاصراً بمجموعة مؤثرات، قبل وخلال مطالعة رواية «النبطي» للدكتور يوسف زيدان، ولعل أبرزها هالات «عزازيل» العمل الإشكالي الذي أثار جدلاً لم يهدأ بعد، وأوصل صاحبه إلى منصة جائزة البوكر العربية، وتلقف القراء لجديد زيدان الذي صرح بأن الطبعة الأولى من «النبطي» نفدت من المكتبات في يوم وبعض يوم، ومن المؤثرات أيضا فقرات مديح من قبل صحف عالمية ونقاد، طرّزت غلاف «النبطي»، مشيدة بزيدان وروايته السابقة تحديداً، كما فضلت إحدى تلك المدائح زيدان على مؤلف «شيفرة دافنشي» دان براون.

لم تبتعد «النبطي» ـ تاريخياً وإن كانت أقل فنيا ـ عن سكة «عزازيل»، إذ حاولت أن تتماس معها، وأن تبدأ من حيث انتهت زمنياً (القرن الخامس الميلادي)، وأن تستعين ببعض المقادير من خلطة كانت سر «نجاح» سابقتها، سيما ظاهرة الاضطهاد الديني، والصراع المذهبي في مصر خلال الفترة التي سبقت الفتح الإسلامي مباشرة، وما وقع نتيجة لذلك من ضحايا. وكما حضرت في «عزازيل» الجدالات الطويلة بين أصحاب مذاهب مختلفة، برزت أيضا في «النبطي» حوارات حول قضايا تصلح لبحث لاهوتي، أو كتاب متخصص، وليس لفضاء روائي ينحاز إلى الفن وجمالياته ورموزه. فشاغل الرواية ذات الاتجاه التاريخي الأساسي هو مساءلة التاريخ ومحاورته، وأن تكون ـ الرواية أيضاً ـ أرشيف المهمشين، ومن نسيتهم أقلام مدوني وقائع السلاطين، وأن يملأ الكاتب فجوات موجودة بالفعل في التاريخ الرسمي، فيسطر بخياله المبني على أسس واقعية، تاريخاً موازياً، وان ينتصر للحياة، وقيم التسامح روحاً لا شكلاً، كما بدا في بعض صفحات «عزازيل»، و«النبطي».

شخصيات

تخصص

 

وُلد الباحث والكاتب المصري الدكتور يوسف زيدان، عام 1958 في صعيد مصر، ثم انتقل مع عائلته للاستقرار بمدينة الإسكندرية، التحق بكلية الآداب، وحصل على شهادة الليسانس في الفلسفة، ودرجتي الماجستير والدكتوراه في الفلسفة الإسلامية. تخصص زيدان في التراث وعلومه، وحقق الكثير من مخطوطاته، ويشغل منصب مدير للمخطوطات في مكتبة الإسكندرية، ويكتب مقالات في عدد من الصحف والمجلات.

ولزيدان العديد من المؤلفات العلمية، وحققت روايته «عزازيل» صدى كبيراً، وحاز عنها جائزة البوكر العربية في عام ،2009 كما أثارت العديد من الأزمات، وله أيضا رواية «ظل الأفعى» الصادرة عن دار الهلال.

مزج الكاتب المصري في روايته الجديدة بين شخصيات خيالية، مارية (البطلة) والنبطي وسلومة والهودي وعميرو وليلى وأم البنين، مع اخرى تاريخية، حاطب بن ابي بلتعة، وعمرو بن العاص وزوجته ريطة، ومارية وسيرين الجاريتين اللتين أهداهما المقوقس حاكم مصر إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وإن كان حظ الأصوات الخيالية أوسع، وأوفر حظاً من غيرها، فهم الأبطال الرئيسون في الرواية، خصوصاً مارية والنبطي (هيبا، وعزازيل، في رواية عزازيل مع الفارق).

وقع صاحب «حديث الأفعى» في «النبطي» الصادرة أخيراً عن دار الشروق المصرية في 381 صفحة، على فترة حساسة، ومنسية إلى حد ما، وهي الـ20 عاماً التي سبقت فتح المسلمين لمصر، ومعاناة أهل الكنانة في تلك الآونة من جنود الفرس تارة، ومن جيوش الروم أخرى، ومن المقوقس.

وتدور «النبطي» حول مارية بطلة القصة، وساردة حكاياتها، شابة في الثامنة عشرة، تعيش مع أمها وأخيها بنيامين في دلتا مصر، في أحد الكفور الصغيرة المجاورة للنيل، مهددة بشبح العنوسة، يخطبها تجار من عرب الأنباط، لأخيهم «سلومة»، وفي شهر افراح مارية، تضطرب احوال مصر، وتهددها جيوش الروم، ويعيش الناس في خوف شديد، يلجأ بعضهم إلى الكنائس محتمين، ويُؤثر آخرون الهروب، وترك البلدات التي تقع على طريق الغزاة.

تعود قافلة العرب، وتأخذ المخطوبة، تودع مارية مراتع طفولتها والمعابد الفرعونية المتاخمة لجدار بيتها، وذكرياتها عن الأب باخوم الرحيم الذي كان يعطيهم دروس الآحاد، وتمنت وهي صبية أن تتزوجه لولا ان امها اخبرتها ان الرهبان لا يتزوجون، وارتحل باخوم عن القرية لسبب لا تعلمه مارية، لكنها كانت تعلم بأن كاهن القرية هو السبب. تفاجأ البطلة لحظة عقد القران بحَوَل زوجها وكبر سنه، وأنه تزوج من قبل مرتين، بينما تقع في حب أخيه الصموت (النبطي) ذي الملامح الجميلة، والمسؤول عن كتابة عقود التجارة، العليم بفنون الكلام، الذي امل والده أن يصير ملكاً يعيد للأنباط مجدهم القديم، بينما تمنت أمه ان يكون نبياً يرفع شأن العرب كلهم.

تنساب لغة الراوية، مغلفة بإطار من الشاعرية الهادئة، لاسيما المصورة لتداعيات البطلة وحالاتها ومشاعرها المتباينة، يفرد زيدان مقطوعات مطولة لذلك، أشبه بقصائد نثرية، بدا عليها التكلف أحياناً، خصوصاً حينما كان المؤلف يحاول أن يصطنع لغة صوفية، وأن يجاري لغة المتنبئين، وسجع الكهان، وإن كان ذلك مبرراً على ألسنة تلك الشخصيات في بعض المواقف.

«حيوات»

يصور القسم الثاني من الرواية أو «الحيوة الثانية» كما سماها زيدان، الرحلة الطويلة التي قطعتها مارية مع عائلتها الجديدة، مستكشفة بلادها بعد أن لم تكن تعرف غير قريتهم الصغيرة، وأخرى مجاورة تسمى البلدة البيضاء، كانت على مذهب ديني آخر مغاير لهم، ولذا كان ممنوعاً عليها ان تذهب إليها على الرغم من الحكايات الأسطورية التي كانت تسمعها عنهم.

تتعرف مارية إلى جذور اهلها الجدد، فـ«النبط والأنباط بمعنى واحد، هم جماعة من العرب، قديمة جداً سمواً بذلك لأنهم تفننوا في استخراج الماء وإنباطه من الأرض الجرداء، ومهروا في تخزين النازل منه بالسيول، كانت لهم في الماضي مملكة كبيرة، وملوك كثيرون، وكانوا يسكنون البادية التي بين الشام والجزيرة». ويروي لها النبطي ان أجداده هم «اول من عرف البلاغة، وقال الشعر في العرب، وأول من كتب المفردات، قبل عرب الشام والعراق، وأول من اتخذ من الجبال بيوتاً، وكنا نصد الروم عن جزيرة العرب، فيرجعون عنها وعن اليمن، ويعيش الناس أحراراً في صحراواتهم، فالصحراء صنو الحرية، ولا صبر لها على استعباد».

في «الحيوة الثالثة» تصل القافلة إلى مضارب الأنباط، تقام الأعراس احتفالاً بالوافدة الجديدة، التي صار اسمها ماوية، بناء على رغبة ام البنين والدة الزوج، عامل الأنباط الغريبة معاملة طيبة، فهم مشهورون بإكرامهم نساءهم حسب الرواية، تعجب ماوية ببيوت الجبال، وتتخذ لنفسها واحداً تقيم فيه، يرتحل زوجها دوماً مع اخوته، وحين يتأخر حملها تذهب مع زوجها إلى الكاهن ليباركها، ولكن لم تفلح المحاولات، وظلت ماوية بلا ذرية.

تتنامى الأنباء عن الدين الجديد، يدخل سلومة في الإسلام، بينما يبقى النبطي على عقيدته، وكذلك أخوه الأكبر الهودي (اليهودي)، وتموت ام البنين، فتستشعر ماوية وحشة كبيرة، بعد رحيل الحماة التي كانت تعاملها كابنة لها.

رحيل

بعد سنوات خمس قضتها ماوية وسط الأنباط، يعود الزوج من إحدى رحلاته إلى مصر مصطحباً معه بنيامين، تفرح ماوية بقدوم الأخ، لكنها لا تلبث ان تفاجأ بموت الأم، وسوء الحال في مصر، فـ«الروم لا همّ لهم الا تحصيل الأموال من المعدمين. الناس تهرب إلى الصحارى، في الأديرة والصوامع البعيدة.. كان الفرس يعاقبون الناس بالسجن والسياط، فصار الروم يؤدبون بلسع العقارب وعضات الحيات. يمنعون الناس من الحركة بين النواحي، ويحظرون مفارقة الكفور والبلدات، ومن يخالف أوامرهم يقتل»، ولذا كان المصريون مهيئين لاستقبال الفاتحين الجدد، المخلصين من المعاناة الطويلة.

يحل الصحابي عمرو بن العاص وزوجته على الأنباط، يأمرهم بالرحيل إلى مصر ليكونوا طليعة للعرب في مصر، نظرا لعلاقاتهم وصلاتهم بأهلها، يرحل الجميع، إلا النبطي الذي بقي في مضارب اهله، تشعر ماوية بحنين الى العودة، والبقاء مع النبطي، قائلة في السطور الأخيرة من الرواية «كان النبطي مبتغاي من المبتدأ، وحلمي الذي لم يكتمل إلى المنتهى.. ما لي دوماً مستسلمة لما يأتيني من خارجي فيسلبني.. أحجر أنا حتى لا يحركني الهوى وتقودني أمنيتي الوحيدة؟ هل أغافلهم، وهم أصلاً غافلون، فأعود إليه.. لأبقى معه، ومعاً نموت ثم نولد من جديد.. هدهدين» فالهداهد تبدو جميلة لأنها تحمل أرواح محبين، كما علمها النبطي.

الأكثر مشاركة