«في بلاد الرجال».. المقهورون وجماهيرية العقيد
لابد أن يودع عتبات الطفولة، ذلك الولد الذي يفتح عينيه على مشهد «زوار الفجر» يقلبون بيته، بحثاً عن أبيه الغائب، ولابد كذلك أن يفتش في قواميس صباه عن معانٍ لكلمات من قبيل «العملاء، الخونة، أعداء الثورة، الديمقراطية، الجماهيرية، والفاتح العظيم» حين يفخخ بها مبكراً عالمه البريء، تماماً كما صار مع بطل رواية «في بلاد الرجال» للمبدع الليبي هشام مطر الذي تخير لعمله بطلاً حُكم عليه بالوعي قبل الأوان، في وطن، اعتبر زعيمه ونظامه ولجانه الثورية، كل المخالفين والمعارضين لهم أعداءً تجب تصفيتهم.
تبرز الرواية فصولاً من مآسي أناس طالهم القمع والتعذيب في جماهيرية العقيد، بعد ثورة الفاتح عام ،1969 وتنكأ جراحاً كثيرة، حتى لدى المؤلف ذاته، فمطر وعائلته قد اكتووا بنار النظام الليبي الذي اختطف الأب (المعارض) من القاهرة عام ،1990 وأودعه أحد السجون في طرابلس، وانقطعت أخبار الاب عن أفراد أسرته منذ ،1994 ما جعل البعض يرى أن «في بلاد الرجال» تضم طرفاً من سيرة هشام مطر، رغم نفي الأخير لذلك.
محطات
ولد هشام مطر في مدينة نيويورك عام 1970 من أبوين ليبيين، قضى جزءاً من طفولته المبكرة في ليبيا ومصر، استقر منذ سنة 1986 في لندن، تخصص في الهندسة المعمارية، وتتنوع اهتماماته بين النحت والتصميم والمسرح والشعر والترجمة. وقال ج.م كوتزيه، الحائز جائزة نوبل للآداب، عن الرواية إنها «قصة مؤثرة عن طفل تعرض باكراً جداً لوحشية السياسة». صدرت «في بلاد الرجال» باللغة الانجليزية عام 2006 عن دار بنغوين في لندن، وصدرت عام 2007 بترجمة سكينة ابراهيم عن دار المنى في استوكهولم في السويد. وترجمت إلى لغات كثيرة. وحاز مطر جوائز عدة عن الرواية التي كانت واحدة من الروايات الست من القائمة النهائية التي رشحت للفوز بجائزة البوكر الأدبية في نسختها الإنجليزية عام .2006 |
على قنطرة بين عالمين متناقضين، عاش بطل حكايات الرواية، الطفل (سليمان) صاحب السنوات التسع الذي كانه الراوي، بين عالم الطفولة، والبيت الجميل والأصدقاء الصغار، ونغمات السلّم الموسيقي التي يعزفها على البيانو، وعالم العمل السياسي «السري» المشحون بالهمسات والمخاوف، والمراقبين الأمنيين المنتظرين لعودة الاب كي يختطفوه إلى المجهول.
مشاهد رئيسة
في رواية مطر الصادرة باللغة الإنجليزية عام ،2006 ونقلتها إلى العربية، سكينة إبراهيم، في العام التالي مباشرة، بعد أن حققت الرواية شهرة عالمية، محطات رئيسة، من أبرزها وأكثرها تأثيراً في وعي بطلها، القبض على رشيد، استاذ الفنون الجامعي، وصديق الأب ووالد أحد أصدقاء سليمان المقربين. يفصل الراوي قسوة تلك الحادثة، خصوصاً أنه كان أحد شهودها، مستدعياً ذلك في أكثر من موضع في روايته، مسائلاً ذاته عن شعور استاذ الفنون وهو يُصفع ويُهان، ويُركل في مؤخرته امام ولده وزوجته وجيرانه، من قبل رجال الأمن، وهم يقتادونه إلى الاعتقال.
ويتتبع الراوي مصير رشيد، فالسلطات تعرض محاكمة الأخير علناً على التلفزيون، كي ترى الجماهير «الخونة»، وتسمع اعترافاتهم «المنزوعة تحت التعذيب طبعاً»، وتكون خاتمة استاذ الفنون المأساوية أيضا علانية، إذ يُنفذ فيه حكم الإعدام على الهواء مباشرة، في ملعب كرة سلة وسط حضور جماهير متحمسة للقصاص من أحد «أعداء ثورة الفاتح العظيم». تصور الرواية تعابير الرجل في ساعته الأخيرة، وتلتقط عين الصغير أموراً غابت عن الكبار ومن تابعوا المشهد: رعشات الاستاذ رشيد، وبقعة البول في سرواله، والمتعلقين بقدميه بعد تنفيذ الشنق.
ورغم أن ذلك المشهد كان هو الأقسى والاشد وقعاً في الرواية، ولكنه لم يكن الوحيد، إذ يوجد له شبيه، وهو مشهد والد سليمان، فبعد اعتقال الأب، وغيابه فترة عن أسرته، يعود ملفوفاً بملاءة وسط إظلام تام للبيت، وتغطية لجميع المرايا، وحين يحاول الطفل رؤية أبيه يفاجأ بمنع أمه له، فيشكّ في أن الشخص العائد هو والده، يلح على أمه كي تُريه إياه، لكنها تخبره أنه مرهق قليلاً، ويجب أن يستريح، وحين يتسلل إلى الحجرة، تزكمه رائحة كريهة، ويفاجأ في ما بعد أنها رائحة جروح أبيه، وما تركه التعذيب في جسده من حروق، وجروح متقيحة، فالـ«ثوار» أحالوا أبيه إلى «مسخ» غريب، ولم يفرجوا عنه إلا بعد تقديم تنازلات أجبر عليها.
أم وابن
في جرجارش، أحد الشوارع الهادئة، بالعاصمة طرابلس، نشأ الطفل سليمان، وحيد والديه (فرج ونجوى)، يرتبط بأمه، ويستمع إلى حكاياتها عن نفسها، وكيفية تزويجها كعقاب لها وهي في الرابعة عشرة من عمرها، بعد أن ضبطت جالسة مع أحد زملائها في مقهى بالعاصمة، وكانت غالبا ما تروي تلك القصص وهي واقعة تحت تأثير الكحول الذي أدمنته، بسبب غيابات الاب الذي عرف سليمان في ما بعد أن كثيراً منها كان بسبب العمل السياسي السري المعارض لنظام القذافي. تزداد اضطرابات الام، وتحاول اقناع زوجها بترك نشاطاته السياسية، ولا تفلح في ذلك.
يطغى جو الخوف على كل مكان في العاصمة، رغم وجود بعض المعارضين والحالمين بالتغيير، إذ «كان شخص ما، أو بعض الخونة يطبعون منشورات تنتقد القائد ولجانه الثورية، ثم يأتون في منتصف الليل ويضعونها على عتبات أبوابنا كالصحف»، لكن يحرص الجيران على التخلص من تلك المنشورات سريعاً والتبرؤ منها، وسبّ كاتبيها وموزعيها أمام بعضهم بعضاً، كي يدفع كل واحد منهم التهمة عن نفسه، خوفاً من نظام الدولة البوليسية والمتلصصين.
يتحكم الزعيم في كل شيء، حتى في البث التلفزيوني وهو في غرفته، فإذا رأى شيئاً لم يرقه معروضاً، حوّل الشاشة إلى منظر أزهار برية، وربما استمر ذلك لساعات، حتى يسمح العقيد، ويعيد البث التلفزيوني مرة أخرى حسب الرواية.
تتوطد علاقة الحب في ما بين الام والابن، فكل منهما طوق خلاص للآخر من الخوف، يهرع الطفل إلى حضن والدته عقب كل حلم، كي تفسره له، وحين تشتد اضطرابات الأم يخترع الابن أحلاماً كي يخرجها مما هي فيه، ويجد في الاحلام المخترعة سبباً للاقتراب من الام والالتصاق بها أكثر. تخبر الام صغيرها بأنه هو أميرها الذي تنتظره الام كي ينقذها مما هي فيه، ولذا يصنع سليمان حصاناً بدائياً كيما يكمل صفات الامير، ويكون عند حسن ظن والدته به. يدفع الخوف الام إلى التفكير في حيلة تبعد بها الابن عن ذلك العالم المتوتر، خصوصاً بعد اعتقال الوالد، وتتخير لصغيرها منفى اختيارياً في مصر، فترسله إليها، ليكمل تعليمه فيها ويصير صيدلانياً، وليكون في ما بعد أحد «الكلاب الضالة» حسب تصنيف السلطات، فكل من ترك الوطن، ونجا من الاشتراك في الحرب الليبية التشادية يعد هارباً، وكلباً ضالاً. يموت الوالد بعد ان جرد من ثروته، واعتقل مرة ثانية وحرم من زيارة ابنه، وفي النهاية تلتقي الأم مع ابنها في منطقة وسط ما بين القاهرة وطرابلس في مدينة الإسكندرية.