أمجد ناصر. غازل حكايات «حيث لا تسقط الأمطار». الإمارات اليوم

تغريبة الواحد الــــــــذي صار اثنين

بكم من الأسئلة الحبيسة المؤجلة في الذاكرة لنحو 20 عاما، وبحنين فاض عن الحد، وصار عصياً على الترويض، لمغترب يعود إلى وطنه بعد منفى طويل، يستهل المبدع الأردني أمجد ناصر حكايات «حيث لا تسقط الأمطار»، إذ تتوالى علامات الاستفهام في الصفحات الأولى من الرواية، وكأن لحظة الرجوع من مطارح الغربة، لحظة لابد أن تتداعى فيها متاريس دفاعية يشيدها داخل ذاته، من يظن ألا عودة من المنافي القصية، وان بدا الأمر ليس بهذه السهولة لدى بطل الرواية، ذلك الواحد الذي حُكم عليه بأن يصير اثنين، وأن يعيش من دون وطن، وفرض عليه نسيان نصف عمره، بعد أن وقع في غواية الرفض، وحلم بأن يكون أحد ورثة بروميثوس، سارقي النار، الممسوسين بالتغيير.

تجربة أمجد ناصر الأولى مع الرواية ــ وليس مع السرد ــ لن تمر من دون إثارة إشكاليات، فناصر الذي تمرد من قبل على شعر التفعيلة، بعد ترك بصمته الخاصة عليه، وبرز كأحد المبدعين الحقيقيين لقصيدة النثر، يقدم في «حيث لا تسقط الأمطار» بناء ولغة غير تقليديين، وحتى على مستوى النوع الأدبي، فعمله الجديد المصنف تحت لون الرواية، من الممكن أن يراه كثيرون شبه سيرة، خصوصًا أن تجربة «أمجد / يحيى» الحياتية، تتماس مع بطل عمله «أدهم / يونس»، أو على الأقل في الحكايات بعض من مبدعها، فيما من الممكن أن يصنفها آخرون على انها ضمن الكتابة عبر النوعية، فالأجناس الأدبية متجاورة في «حيث لا تسقط الأمطار»، حيث لم يكن حضور الشعر مجرد أسطر تفتتح بها بعض عتبات الفصول، بل سرت روحه في معظم مفاصل العمل، إذ إن ناصر مثل راوي حكاياته لا يهمه التصنيف بعد أن جرب جميع الوان الكتابة «لا تصنف ما تكتب، فقط تكتب.. الحقيقة أن التصنيف لا يعنيك. كان يعنيك في صدر شبابك. خضت مع آخرين معارك حول الشكل والمضمون وصلة القصيدة بالواقع والمتلقي، لكنك لم تعد تفعل ذلك بعد أن استوطنتك الشكوك. تؤمن الآن أن التصنيف والخانات عمل لا يقدم ولا يؤخر. مجرد يافطة».

قصائد وأمكنة

 

 

ولد أمجد ناصر في شمال الأردن عام ،1955 عمل في الصحافة في كل من بيروت وقبرص بين عامي 1977 و.1987 انتقل إلى لندن وأسهم في تأسيس جريدة القدس العربي، ويعمل مشرفا على قسمها الثقافي. من أعمال ناصر الشعرية «مديح لمقهى آخر» ،1979 و«منذ جلعاد كان يصعد الجبل» ،1981 و«رعاة العزلة» ،1986 و«وصول الغرباء»،1990 و«سرّ من رآكِ» ،1994 و«مرتقى الأنفاس» ،1997 و«وحيداً كذئب الفرزدق» ،2008 و«حياة كسرد متقطع». ومن مؤلفاته في أدب الرحلة والأمكنة «خيط الأجنحة» ،1995 و«تحت أكثر من سماء» ،2002 و«الخروج من ليوا» .2008 وترجمت بعض أعماله إلى العديد من اللغات العالمية.

ازدواج

من بداية الحكاية، يأسر بطل «حيث لا تسقط الأمطار» القارئ، بصورة غير نمطية، عبر حيرته وقلقه وحسابه القاسي لذاته، وعبر أسئلة تبدو وكأنها غير مهمومة بتلقي اجابات، فأدهم الذي كان يونس، أو الشخص الذي صار صاحب اسمين وتاريخين مزدوجين، تلتبس عليه الأمور، ولا يدري إلى أي شطرين من حياته يميل، فقد ودع 20 عاما من عمره يوم أن حمل حقيبته هاربا من الوطن، إثر محاولة ثورية للتنظيم الذي كان أحد أفراده. وها هو يعود، ومطلوب منه أن يسترد ماضيه، وأن يلتئم مع القرين الذي تركه ذات خريف.

يمسك بدفة الرواية حيناً أدهم، وآخر يونس، يرتفع صوت الأخير، وتبرز ملامحه في جنبات «الحامية» (الوطن المفترض) بعد العودة، ولكن لا يتوارى أدهم الذي هو عليه شكلاً وملامح وكيانا جديدا. قد يكون في الكلام التباس كما في بنية الحكاية المقسمة بين عالمين وشخصين في شخص، وهو الجو الذي حافظت عليه الرواية حتى في آخر مشاهدها، فحين زار البطل مقبرة أمه «فكر بنفسه، باسمه، أو بالأحرى باسميه. أيهما سينقش على شاهدة (قبره)؟ نظر حوله، كمن يفتش عن شخص آخر يشعر بوجوده، ولكنه لا يراه». فهل كان أدهم يبحث عن يونس، أم بالعكس طوال رواية «حيث لا تسقط الأمطار» الصادرة العام الماضي عن دار الآداب اللبنانية في 263 صفحة.

شخصيات

إلى جانب يونس الخطاط برزت في الرواية شخصيات أخرى، من أبرزها الأب الذي حضر رغم غيابه وموته، فالبطل بعد أن عاد يرى بشكل مختلف إبداعات أبيه الخطاط، ويعوض تجاهله القديم لتلك الأعمال بالعكوف من جديد على تأملها، وتصوير البوصات والاحبار واللوحات التي كانت في مشغل الاب. ويفتح أمجد ناصر لقارئ روايته نافذة عريضة على جماليات الخط العربي، وأبرز رواده، فالأب لم يكن مجرد ناسخ، بل كان مثقفاً وصوفياً ومريدا في حضرة رواد الخط في التراث العربي، وصاحب رؤى خاصة، تكشفت للابن، لكن بعد رحيل الاب الفنان الذي تسبب له ولده المتمرد منذ صغره في اكثر من أزمة كان آخرها التورط في عملية ابعدته عن الوطن والأسرة. في مقابل ذلك الحضور الأبوي الطاغي، لا تبرز صورة الأم بذلك الشكل، إذ يأتي الراوي على ذكرها سريعا في بعض المواقف، عبر روائح قهوتها الصباحية، وطقوس شايها المنعنع، وأخيرا جملة سريعة، تصور لحظتها الأخيرة وهي في المستشفى تعاني السرطان، وترنو إلى جهة الغرب التي غيبت ابنها، قد يهل عليها ولو طيفا.

وطبيعي أن تكون هناك حبيبة اولى، وأن تفرد لها مساحة في الروح والصفحات أيضا، وكانت في «حيث لا تسقط الأمطار»، رلى، سيدة المدينة، التي أسرت يونس، من اول لحظة رآها، وقال لها في اللحظة ذاتها «أحبك»، وألهمته شعراً، وقصائد أولى وجدت طريقها للنشر، والحفظ من قبل العشاق والمحبين، حتى إن بعض المحال في «الحامية» تخيرت عنوان قصيدة اسماً لها. ولكن افكار البطل الثورية وأفعاله كانت عائقا بين الحبيبين، فرلى اعتبرتها سبباً في اغتيال أبيها، أحد حراس «الحفيد» ملك الحامية، وبعد التغريبة الطويلة بقيت رلى جرحا غائرا في روح يونس، إذ كان يتلمس أخبارها، وحين رجع ورآها مارة تحت نافذة بيته عاد صبيا لا يفكر في تصرفاته، وأرسل ابن أخيه لها كيما يستدعيها متعللاً بحجة أن أمه تريدها. «كنت تستعير كتابا من المكتبة العامة عندما وقع نظرك على تلك التي ستقول لها (شعرك كقطيع ماعز يبدو من جبال جلعاد) تلك التي ستكتب لها بوحي من الأثر السابق (أذكر ثغرك من طعم الخمر.. وإبطك أكثر من رائحة التفاح) حتى قبل أن تذوق طعما للخمر، وتتحول حلاوة فمها إلى ذكرى، تلك التي ستكتب لك على ورق رسائل وردي بعد أن تكتشف مصدر شعرك الرعوي وتتقاسمان هباته سراً (أسندوني بأقراص الزبيب.. قووني بالتفاح.. فقد اسقمني الحب)».

وإلى جانب الاب والام والحبيبة كان هناك أصدقاء الصبا، ورفقاء التنظيم الثوري «الى العمل»، وكان أبرزهم خلف، ومحمود أبوطويلة الذي جرب الابداع ولم تفتح له سماواته، واكتفى بالخطابة وبعض المقالات الملتهبة، وهرب مع يونس، لكنه عاد، وتبوأ مكانة في الوطن، ورآه البعض خائنا وانتهازياً، معتبرين أنه كان أحد عيون نظام الحامية. ويمثل محمود أحد مآلات النضالات العربية. ويكتمل عالم الرواية مع شخوص ثانويين، الزوجة التي اقترن بها البطل تضامنا وإعجابا، فلا حبيبة بعد رلى، وكذلك الابن بدر الذي سماه البطل على اسم شاعره الأثير (بدر شاكر السياب)، والذي فتن به يونس، وقطع المسافات كي يزوره في بلده. ينتقل يونس في تغريبته بين أكثر من عاصمة يذكرها ككنايات، الحامية (الأردن، أو أي بقعة عربية) مدينة الحصار والحرب (بيروت)، جزيرة الشمس (قبرص)، والمدينة الرمادية الحمراء (لندن).

الأكثر مشاركة