«رهان» حتى الــــرمق الأخير
لم ينج كثير من حضور مسرحية «الرهان» لمسرح الشارقة الوطني، التي عُرضت أول من أمس، في «قصر الثقافة» ضمن المسابقـة الرسمية لمهرجان الشارقة الوطني، من تداعيات حالة توحد وجداني مع شخصية مقاوم ضد أعداء وطنه، جسدها المسرحي العراقي محمود أبوالعباس، الذي أبكى زميليه على الخشبة والجمهور، والمخرج علي جمال، الذي لم يتمالك نفسـه في الندوة التطبيقية، وبقي المقاوم الذي مات واقفاً في المشهد الأخير برصاصة اخترقت صدره صامداً.
منذ اللحظة الأولى تكتشف أنك أمام حدث مسرحي لن ينساق كثيراً لفكرة التدرج في بنائه، وستبدو الكثير من مفاصله بمثابة ذروات متنوّعة لقمته، في ظل مشهد ينفتح على رجلين يجران عربة عتيقة تحمل أغراضاً مخفية بعناية وكأنها أمتعة ذاتية، فيما يحيل حوار الشقيقين إلى أنهما في سبيلهما للهروب خارج الوطن جرّاء مطاردة أعدائه وعدم توافر الأمن، في ظل حضور لأصوات قنابل تدوي وهدير مدافع تسمع بين الحين والآخر.
البقيش: تفاءلوا بالمستقبل «أنا حزين على هذا العرض الذي لا يعبّر عن عراقة مسرح ينتمي له أهم نجوم الدراما الإمارتية».. بهذه الكلمات اختصر الفنان موسى البقيش ابن مسرح رأس الخيمة رؤيته النقدية لعرض «سفر موت»، مضيفاً: «هناك إشكالات بالجملة في العمل، لكن علينا أن نؤكد بالأساس أن هناك إشكالات أيضاً في مسرح رأس الخيمة بالأساس». وأضاف البقيش معللاً غياب النجوم الذي يتحدث عنهم، فضلاً عن غيابه الشخصي: «لظروف كثيرة بالمسرح فضلت الابتعاد الآن»، والكثير من الفنانين قرروا هذا البتعاد أيضاً، مستدركاً: «لكن علينا ألا نتمادى في ظلم (سفر موت)، لأن معايير لجنـة المشاهدة التي تقرر قبول العمل في المسابقة الرسمية من عدمه بالأساس غير واضحة». |
وبين قاسم المقاوم الذي يجسد شخصيته أبوالعباس، وشقيقه إسماعيل الذي يقوم بدوره الفنان محمد إسماعيل، يبدو تناقضاً بين فكرة التمسك بخيار المقاومة التي يمثلها الأول، والنجاة بالنفس الذي يطوق لها الثاني عبر الاتجاه إلى الحدود، لكن هذا التناقض لم ينزع حميمية مشاعر الأخوة التي تجعلهما يتمسكان بالبقاء معاً رغم اختلاف الوجهة.
السينوغرافيا تنفتح على فضاء مسرحي تشكل فيه العربة العتيقة جانباً مهماً، في ظل حضور عدد قليل من فروع الأشجار المتدلية فروعها الجدباء، رغم اختفاء أصولها وجذورها عن المسرح، وهو ما يعني عملياً أن لا مزيد من الخيارات لتواري الفعل المسرحي بعيداً عن المكشوف تماماً للمشاهدين، لأن حتى العربة التي تتحرك بقوة دفع اليدين من الخلف، كان يستثمر ظهرها كساحة يلجأ إليها قاسم في حديث ذكريات ليلي يواجه به ذاته وأخيه والجمهور أيضاً.
الإضاءة المتنوّعة والمتدرجة قوة وضعفاً، تصاعدية وتنازلية من حيث اتجاه تدرجها، كانت موحية وموظفة توظيفاً دالاً على تنوع وتبدل الأجواء النفسية للمتحركين على الخشبة، وهو أمر لم تخطؤه أيضاً المؤثرات الموسيقية والصوتية، التي ساعدت على حالة التوحد بين الشخوص والمشاهدين، إلى الدرجة التي تمكن فيها الطرف الأول من تبديل حال الاستغراق في التأمل والتعايش مع الخلجات النفسية للمقاوم تحديداً، إلى الانتشاء بلفتات كوميدية لم يعدمها «الرهان».
تلك الحالة التي تعايش معها الشقيقان واختزال حديثهما عن الأب المقاوم الذي لا يتمنى إسماعيل أن ينتهج خطواته، ويظل أسيراً لعربته التي ورثاها عنه، قطعها حضور شخص ثالث غريب بنصف لباس عسكري، ونص آخر مدني، جسد شخصيته الفنان عبدالحميد البلوشي تعامل معه المقاوم فوراً على أنه عدو، وألزم أخيه بتقييده، على الرغم من أنه يبدو شبههما ويتحدث نفس اللغة واللهجة على حد تقرير إسماعيل الذي لم يره عدواً.
نقاش
فتح سياق نقاش كان يرفضه المقاوم مع الشخص الغريب ألح عليها إسماعيل جعلتهم يستسلمون لفكرة أنه رجل سعى فقط إلى الفرار من بطش الأعداء، مفسراً نصف زيه العسكري بأنه محاولة تمويه للعدو، وهو «نصف الزي» الذي فتح باب تأويلات على هوية الأعداء، وهل هم فقط أعداء وطن من الخارج طامعين في مقدراته وإركاع شعبه، أم أعداء وطن ينبشون من الداخل للأهداف نفسها، أم الكل معاً.
فك أسر الغريب كان بمثابة تحول آخر في الأحداث ، ليظل هذا الرجل مشغولاً بما تخفيه تلك الأغراض المستترة بإحكام فوق العربة، لا سيما في ظل خلاف احتدم بين الشقيقين على ملكية العربة، وأيضاً ما تحتويه، ومن دون الكشف عن سائر محتوياتها عثر الغريب على زجاجة خمر أكد المقاوم أنه فوجئ بأن شخصاً ما نسيها لديه وظلت مهملة ضمن سائر المحتويات. حالة من صراع الإرادة بين أخ مصر على مشاركة الغريب شرب الخمر، ومقاوم دعاه مرارا لعدم الانقياد له، تحولت في النهاية إلى تنافس الثلاثة على الزجاجة، قبل أن يصبحوا جميعهم ندماء لكأس أنستهم مخاطر المكان والزمان، وفكرتي الهروب الآمن، والمقاومة المسلحة معاً.
المساواة التي لم تكن قائمة بين الثلاثة في ما يتعلق بالأفكار ولغة الحديث تلاشت بينهم، قبل أن يفيق المقاوم ويحيل أخيه إلى بطولات أبيه الراحل، لكن الشقيق الأصغر إسماعيل يصارحه بأنه لم يعد يحب أبيه لأنه من قتل أمه، فتتكشف الأحداث بأن ثمة خيانة عائلية هذه المرة أدت إلى قتل الأم التي أذاعت أسرار المقاومين للخال العميل، لتختلط ألوان الخيانة وتدرجاتها على خشبة المسرح، عندما يحتد يتنازع الأخوين بين خياري المقاومة والهروب خارج الوطن، فيكشف الغريب عن حقيقته بعد أن عاد وعبث بمحتويات ميراث الأخوين، عربة الأب، ليجدها مملوءة بسلاح المقاومة.
رسائل
المؤلف والمخرج علي جمال عمق رسائله والفكرية عبر «الرهان» برمزية جديدة جعلت الشقيق الأصغر هو من يقوم تحديد تهديد سلاح المقاومة، الذي أصبح يحمله الغريب بتقييد أخيه، وحتى عندما أمره الأخير بالذهاب إلى العربة في ظل انشغال الغريب به، والحصول على سلاح ما في مكان مخبأ بها، لم يستطع إسماعيل على الإمساك بالسلاح، لأنه لم يعد قادراً حتى على الدفاع عن أخ هو كل ما تبقى له من رائحة وطن يبيده الأعداء. لم تكن تواتر الأحداث وتسارع أحداثها في مفاصلها الأخيرة تعرف التسلسل مطلقاً واتجه بها المخرج نحو تكثيف مؤلم لتلك المشاعر التي وحدها العرض، وبمزيد من الرمزية الدالة طلب الغريب من إسماعيل اصطحابه إلى معسكر «الأعداء» كي ينال مكافأة رمزية ويشهد على جسارة الغريب في إلقاء القبض على «مقاوم مطلوب»، لكن إسماعيل فضل أن يستمر في طريق الهروب خارج الوطن للسلامة ببدنه وبقايا روحه، رغم استغاثة أخيه: «لا تذهب حتى تفارقني الروح يا إسماعيل.. ادفني في وطني»، قبل أن تأتي رصاصة في صدر المقاوم من بندقية مقاومة حملها الغريب تنهي المشهد المأساوي الذي تظللت معه الخشبة والقاعة تدريجياً وصولاً إلى العتمة الكاملة، وإسدال الستار.
«الرهان» الذي وصفه حاضرون للندوة التطبيقية التي أعقبته بأنه نص عالمي وإنساني وليس فقط ذي أبعاد عربية، بفضل تغييب الإشارة المباشرة لمكان وزمان بعينهما، وصلاحية عيش تفاصيله في مختلف الأوطان التي تتعرض لمكائد ووحشية وقمع أعدائها، ظل بمثابة علامة استفهام كبيرة نبه إليها المخرج في كلمته عندما قال في الملصق التعريفي للعرض «من يربح الرهان؟ لا أعرف.. ولا أظنكم تعرفون»، لكن السؤال الأكثر صعوبة ضمن سياق العمل: الرهان على من؟ المقاومة.. القيم الإنسانية.. قيم الأخوة ورابطة الدم، سؤال آخر يحتمل تأويلات وإجابات عدة.
«سفر موت»
من جهة أخرى، استضافت خشبة معهد الشارقة للفنون مسرحية «سفر موت» لمسرح رأس الخيمة الوطني، من تأليف رئيس المسرح، إبراهيم بوخليف ومحمد حاجي عضو مجلس الإدارة، وتمثيل مبارك خميس وسالم العيان وماجد المنصوري وعبدالرحمن الكاس، وعليا، ودارت حول فكرة الصراع بين القيم الإيجابية في المجتمع وبعض المعتقدات السلبية مثل الإيمان بالدجل والشعوذة، ممثلة في إشكالية طالب مجتهد يتعرض لظروف أسرية سيئة، ويعيش مع اخته في كنف خاله، ويسافر للخارج ليستكمل تعليمه مستثمراً إرادته في الجمع بين الدراسة والعمل للاعتماد على نفسه، لكن المحيطين به من أسرته عندما يعود ويصر على استكمال مشواره بأنه مصاب بمرض نفسي أو به مس من الجن.
السؤال الذي طرحته «سفر موت» موضوعياً هو من قتل «ناصر» الذي يظهر في نعش قبل نهاية العمل، لكن بغض النظر عن التأويلات فإن العمل بدا مفتقداً الحبكة الدرامية، وظهرت به مشكلات كثيرة على مستوى السينوغرافيا، خصوصاً التي جعلت كل الممثلين يخرجون من باب واحد على اختلاف وجهتهم، وفي ظل غياب مؤلف العمل رئيس مسرح رأس الخيمة عن الندوة التطبيقية تلقى «سفر موت» الذي عرض خارج المسابقة الرسمية للأيام انتقادات شديدة من النقاد والمسرحيين الضيوف، فضلاً عن انتقاده من قبل مسرحيين محسوبين على مسرح رأس الخيمة نفسه، مؤكدين أن الطاقات الحقيقية لمسرحييه بمقدروها أن تنتج عملاً قادراً على الأقل لإقناع لجنة المشاهدة بقبوله ضمن مسابقتها الرسمية.