معتقل سوري يسجّل يوميات 13 عاماً من القهر

«القوقعة».. كـل هذا الكم من التعذيب

صورة

تلك البقعة الملعونة التي تسمى بـ«غوانتانامو، قد تكون جنة ومعتقلاً بدرجة خمس نجوم.. مقارنة بالسجن الصحراوي الذي اقتيد إليه بطل رواية «القوقعة.. يوميات متلصص»، وتعرّض فيه لكمٍ من التعذيب، من قبل سجانين ساديين، يتفننون في إذلال البشر، ويثبتون أن سجون «شرق المتوسط» غير، في ابتكار أساليب القهر، واجتثاث الآدمية، وسلب الروح بلا أي حسابات. رواية «القوقعة» ليست مجرد سرد لأحداث خيالية، اقتبسها مبدعها الكاتب السوري مصطفى خليفة عن قصة ما، أو استوحاها من خبر في جريدة معارضة عن مأساة معارض للنظام في بلاده، بل هي شهادة لخليفة عن تجربته الذاتية في السجون السورية لنحو 15 عاماً في نهاية السبعينات وثمانينات القرن الماضي، وليس من عاش كمن سمع.

يكشف كاتب «القوقعة» الصادرة عام 2008 عن دار الآداب اللبنانية، عن عوالم قاسية، ويسجل شهادته عن الاعتقال بواقعية صادمة أحيانا، ومباشرة لها ما يبررها أحيانا أخرى، فلا محل للمكياج الفني أو الرتوش حين تكون التجربة بتلك القسوة. ويبني خليفة روايته ـ أو شهادته ـ على شكل يوميات، حفرها البطل المعتقل ـ أو الكاتب لا فارق ـ في ذاكرته، إذ لم يستطع أن يحفظها في أوراق، فالقلم والورقة كانا في ذلك المكان ترفاً فوق قدرة السجناء على التخيل، إذ كانت أقصى أحلامهم الفوز بربع رغيف خبز في اليوم، والنجاة من مشانق الإعدام نصف الأسبوعية، ولذا فهو قد درب ذهنه على التحول إلى شريط تسجيل، يحفظ كل ما يراه ويسمعه، كي يفرّغه بعد خروجه من السجن.

إهداء

يُهدي الكاتب والسينمائي السوري مصطفى خليفة روايته «القوقعة» «إلى رزام ورهام، وإلى كل أطفال وشباب العالم، آملاً أن تعيشوا حياة أفضل من تلك التي عشناها. إلى سجناء الرأي في كل زمان ومكان، عسى أن يعيد لهم نشر هذه الشهادات جزءاً من حقوقهم المنتهكة».

مسيحي إخواني

من وجهة نظر سجانيهم، المعتقلون «السياسيون» أشد «خطراً» من أصحاب السوابق والمجرمين، ولذا فمعتقلاتهم والقائمون عليها مختلفون، ذوو خيالات مريضة، تستطيع أن تبدع صنوف تعذيب، وتبتكر أساليب قهر لا تخطر على بال، فتجعل السجين مثلاً يشرب من «المجاري»، أو تبصق في فمه، أو ترغمه على بلع فأر ميت، أو غيرها من أشكال القهر التي فصلها البطل في يومياته، وأوغل قلم مصطفى خليفة في الغوص في تفاصيلها المرعبة: «كان أحد الرقباء (في المعتقل) واقفا في ظل الحائط، مرت فأرة أمامه فهرسها ببوطه العسكري، مُعست الفأرة وماتت، أخرج الرقيب من جيبه منديلاً ورقياً، وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة.. منذ ذلك الوقت صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءاً مهماً من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها، كلهم قاموا بهذا العمل، ولكن ابتكاره (إبداعه) عائد لأول رقيب قام بهذا العمل»، وكل هذا يعد هينا مقارنة بحفلات التعذيب والمشانق.

أكثر من مفارقة تقوم عليها الرواية في البداية، فالبطل الشاب الذي انتهى لتوه من دراسة السينما، يترك بلد الحريات فرنسا، ويعود إلى وطنه مترعاً بالأحلام، وفي مطار أورلي بباريس تحاول من كانت صديقته إثناءه عن قرار العودة، لكنه يتشبث «أنا أحب بلدي، مدينتي. أحب شوارعها وزواياها. هذه ليست رومانسية فارغة، إنه شعور أصيل، أحفظ العبارات المحفوظة على جدران البيوت القديمة في حيّنا، أعشقها، أحن إليها». وتكون المفارقة أنه لحظة رجوع البطل، الكاتب، إلى المكان الذي يحبه يلقى القبض عليه في المطار، ويتهم الشاب المسيحي بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، ويلقى به في دهاليز المعتقلات، ولا يشاهد الأماكن التي كان يعشقها إلا بعد 13 عاماً وثلاثة أشهر و13 يوماً، إذ تنفصم الصلة الوجدانية بينه وبين تلك المدينة وبين البشر كذلك، بعدما رأى من عذابات في سجون جعلته مثل سلحفاة تتلصص على العالم من داخل قوقعتها السميكة.

مأساة مركّبة

مأساة بطل الرواية الذي لم يسمه الكاتب لأنه هو، كانت مركبة، إذ حُكم عليه بأن يعيش أسير محبسين، سجن داخل سجن، أو بالأحرى حكم عليه بالعزلة الجبرية داخل قوقعته، فحينما علم السجناء أنه مسيحي اعتزلوه، إذ كان معظمهم من الجماعات، وبعضهم من المتشددين الذين اعتبروه كافراً يجب الخلاص منه، لكن أجاره آخرون، شريطة الا يخالطوه. ولذا عاش البطل في عزلة، لا يكلم أحدا حتى نسي الكلام لسنوات طويلة، وكل ما كان يحصله كان تلصصاً، سواء بالعين أو باستراق السمع.

رغم ذلك حاول قلم خليفة أن يكون موضوعيا في حكمه على «الجماعات» في السجن، يذكر تعصب البعض، لكنه لا ينسى من حموه، ومن قاموا برعايته حينما خرج من إحدى جلسات التعذيب شبه مشلول، ومن تحملوا عنه الجلد حين جاء دوره لأخذ حصته من العقاب في يوم ما، ويصف شجاعة من كانوا يقدمون على الإعدام بثبات وشجاعة، وكذلك من تضعف قواهم وتخور في ذلك الموقف الصعب. ويروي الكاتب أيضا في شهادته قصص تعايش وتعاون، ظهرت فيها إنسانية المعتقلين بغض النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية.

ويسرد خليفة مآسي فتحت التجربة عينه عليها، فأصحاب السلطة لم يفرقوا بين طفل أو شاب أو شيخ، إذ ضم المعتقل كل تلك الأطياف، صبيانا في الخامسة عشرة، وشبابا في زهرة العمر، وشيوخا قد بلغوا من الكبر عتياً وجاوزا السبعين، وكذلك أفراداً من عائلة واحدة. ومن أكثر المشاهد المؤثرة في الرواية حينما طالب المحققون في المعتقل أباً أن يتخير واحداً من أبنائه الثلاثة المسجونين معه كي ينجو من حكم الإعدام، وحينما اختار الأصغر فوجئ في يوم التنفيذ بأن السجانين أخذوا الأصغر مع أخويه، وترك الأب الشيخ الذي ظل يصرخ ويحاول أن يفتدي ابنه بنفسه، لكن المسؤولين رفضوا، وسادت مهجع السجناء حالة من البكاء الهستيري نتيجة حالة الأب، رغم أنهم كانوا يرون الإعدام غالباً كل يوم، بعدها وقفوا جميعا يصلون على الجنازة، ومعهم بطل الرواية المسيحي، على الأبناء الثلاثة متحدين قوانين السجن التي كانت تمنع الشعائر لأن «الوطن أهم من الدين».

قوقعة الحرية

يفاجأ البطل ذات يوم بأنهم يبحثون عنه، ينقل إلى سجن آخر أخف وطأة من معتقله الأول، إذ كان به سجناء شيوعيون، يتعرفون إليه، ويخبرونه بأن خاله صار وزيراً، يزوره أخوه بعد ذلك، ومعه ابنته التي تركها عمها طفلة وأصبحت امرأة مكتملة الأنوثة، يسعى الخال الى الإفراج عن البطل، بينما يحاول المحققون ان يجبروه على التوقيع على اعتذار لرئيس الدولة، والعمل معهم جاسوساً على جالية بلده في فرنسا التي سيعود إليها كبطل، يرفض ذلك بشدة، يحاول كثيرون معه، ولا تفلح وسائل الإقناع ولا محاولات الخال، وكذلك سبل التعذيب ثني بطل الرواية عن عزمه، يعرف خلال تلك الفترة أن أحد زملائه أثناء الاغتراب كتب فيه تقريراً، بعد أن تفوه البطل بعبارات مازحة عن رئيس الوطن المفدى، يحاول تذكر توقيت ذلك الحدث لكنه يفشل.

في النهاية يطلق سراح السجين، يعود إلى البيت، يفاجأ بموت والديه، يزور قبر أمه، وبصورة لا إرادية يقرأ عليها الفاتحة، ويصلي صلاة جنازة المسلمين كما كان يفعل في المعتقل. لا يستطيع البطل ممارسة حياته الطبيعية، يحجم عن الزواج والاختلاط بالناس، ويرفض ان يمارس مهنة الإخراج التي يعشقها، ليعيش في قوقعة ثانية بعد خروجه من قوقعته الأولى في السجن، ولا يكون له من مصير سوى ممارسة التلصص على الحياة وليس المشاركة فيها، ليجد نفسه في سجن آخر كبير مفتوح.

تويتر