نحت على الرمل لفنان هندي يصور نهاية أسامة بن لادن الذي كان البحــــــــــــــــــــــــــــــــــر مثواه الأخير. إي.بي.إيه

عمر بن لادن: هذا ما جناه أبي علي

لم تكن صبيحة الثاني من الشهر الجاري عادية، بالنسبة لكثيرين حول العالم، سيما لقاطني كهوف تورا بورا من المنتسبين إلى تنظيم القاعدة، عقب استشهاد أميرهم أسامة بن لادن، وكذلك للأسر الثكلى التي مازالت تتوجع من تداعيات أحداث 11 سبتمبر بعد سماعها نبأ مقتل غريمها الأول، وأيضا بالتأكيد كان الخبر أشد وقعاً على زوجات بن لادن وأبنائه وأحفاده، خصوصاً من عاش منهم مع أسامة أحداثاً درامية، وتنقلوا معه عبر محطات حياته، فتركوا الثراء والدور الآمنة، ليسكنوا معسكرات وكهوفاً بدائية في أحراش وجبال، ورأوا الموت معه في مناسبات عدة، روى بعضها كل من، عمر، نجل أسامة بن لادن، ونجوى غانم، الزوجة الأولى لمؤسس «القاعدة»، في كتاب «إنه بن لادن.. كل شيء عنه بلسان زوجته وابنه» للمؤلفة الأميركية جين ساسون.

يبوح عمر وأمه نجوى، في الكتاب الذي يقع في 478 صفحة، بأسرار وحكايات من داخل بيت الرجل الذي شغل الدنيا، ويسجلان ذكريات وشهادات شخصية عن مقسَم العالم إلى فسطاطين، والمطلوب «الزئبقي»رقم واحد عالمياً.. من ظلت أميركا بأقمارها التجسسية، وشبكات مخابراتها تنقّب عنه نحو 10 سنوات، خرج بعدها رئيسها باراك أوباما، أول من أمس، معلناً نهاية «الأسطورة».

حب وكره

شهادة الابن على أبيه ـ وهي مجروحة دوماً ـ تبدو متأرجحة، مملوءة بحالة غريبة من المشاعر المختلطة، وربما يكون ذلك مبرراً، فعمر في أحايين يحب والده إلى حد الوله، ويتحدث بإعجاب عن مناقبه: «شجاعة، ورباطة جأش، وجهاد، وحلم بالعدالة والعزة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها»، وفي أحايين أخرى ينتقده بشدة، فيسرد تفاصيل تظهر ما جناه بن لادن على عمر وأسرته: قسوته على أهل بيته، ورفضه استخدامهم لكثير من مستجدات العصر، فألعاب الأطفال كانت محرّمة، وكذلك تناول الأدوية الطبية الحديثة، وعندما عانى عمر (المولود عام 1981) وإخوته من داء الربو نصحهم الوالد بتنشق أقراص العسل، ما دفع بهم إلى شراء الأدوية من وراء الأب الذي منع عائلته كذلك من استعمال المبردات، وآلات التكييف، والأثاث الفاره حتى في أيامهم الأولى في السعودية، تحسباً للخشونة التي عاشوا فيها بعد ذلك. يقول عمر: «بقي والدي مقتنعاً بأن علينا أن نعيش بأكبر قدر من البساطة، ونزدري أسباب الراحة المعاصرة، لم يسمح لنا إلا باستخدام الإنارة الكهربائية في فيلتنا، بينما منع علينا استعمال الثلاجات، والأفران الكهربائية، أو أنظمة التبريد والتدفئة، ومرة أخرى اضطرت أمي وخالاتي (زوجات أبيه) إلى طبخ الطعام على مواقد محمولة تعمل على الغاز، وعانينا جميعاً».

راوية الشهادات

 

جين ساسون كاتبة ومحاضرة أميركية ذات شهرة عالمية. لفتها الكثير من قضايا الشرق الأوسط. سافرت عام 1978 إلى السعودية، وعملت منسقة إدارية للشؤون الطبية في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث في الرياض. لها ثمانية كتب احتلت صدارة أفضل الكتب مبيعاً في العالم. وحازت عدداً من الجوائز المرموقة.

يبدو أن الأب كان يستشعر أن أيامه المستقبلية، وبالتبعية ايام أسرته، لن تكون هانئة، ولذا وضع لأفراد عائلته التي تنامت وكبرت، بفعل الأعضاء الذين كانوا ينضمون إليها سنوياً، بسبب جمع أسامة بين أكثر من زوجة، برنامج تدريب «جهادي» مبكراً، إذ كان يعودهم على النوم والسير في الصحراء، وصعود التلال والجبال، وتحمّل العطش لفترات طويلة، فالأطفال ـ حسب شهادة عمر الابن ـ كانت تحفر لهم حفر في الصحراء يبيتون فيها، ويكون غطاؤهم خلال تلك الليالي الرمال، بغض النظر عما تحتويه من حشرات ومخاطر. ودرّب أسامة أبناءه كذلك على ركوب الخيل، والصيد، والسباحة، وحمل الكلاشينكوف الشهير الذي كان لا يفارق كتف الأب.

تمرّد أول

أول المتمردين على أسامة بن لادن من أفراد عائلته الصغيرة كان ولده البكر عبدالله الذي ما ان بلغ السابعة عشرة، حتى تعلل برغبته في الزواج، وكانت الأسرة خلال تلك الفترة في السودان التي هرب إليها الأب عام .1991 عبدالله رجع إلى السعودية وارتبط بإحدى قريباته، ورفض العودة إلى الأسرة، مقيماً شبه قطيعة معها. أما ثاني المتمردين فكانت زوجة أسامة الثالثة (خيرية) المعلمة التي رفضت نمط حياة «المجاهد المطارد»، وعادت بأبنائها إلى المملكة، وحصلت على الطلاق كذلك. بينما تمرد صاحب الشهادات الأكبر في كتاب «إنه بن لادن»، الصادرة ترجمته العربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت، عمر بن لادن، تأخر إلى حد ما، إذ اعتبره أبوه ساعده الأيمن، والمؤهل لحمل راية «الرسالة» من بعده، خصوصاً بعدما اصطفاه من دون إخوته، لرحلته إلى افغانستان وجبال تورا بورا، لكي يمهدا معاً لمرحلة جديدة في حياة الأسرة، بعد أن ضاقت عليها أرض السودان بما رحبت، وأمهلت السلطات أسامة فترة لمغادرة الخرطوم، بعد نحو خمس سنوات قضاها هناك.

الرحلة إلى الجبال البيضاء في أفغانستان فتحت عين الصبي عمر على حياة أبيه وأفكاره أكثر، جعلته يقترب منه، ويشاركه الغرفة ذاتها والطعام والشراب، ويرى تأثيره في أتباعه، ومدى حبهم له في تلك البيئة القاسية، والسمع والطاعة الذي يقابل به، ولكن كان عمر دوماً يبحث عن السبب وراء ذلك الترحال، والحياة غير الطبيعية، كان يبيت مؤرقاً بجمر التساؤلات، باحثاً داخل ذاته عن إجابات، خصوصاً في ظل خشيته لذاك الأب الذي يهابه مئات الرجال، وينتظرون إشارته للتكلم أو التحرك، فلا مجال للمناقشة «تمنيت لو أمكن أن تنبت لي على الفور لحية كبيرة، ولو حصل ذلك لاعتبرت رجلاً بالغاً يمكنه أن يتخذ خياراته الخاصة، كما فعل شقيقي الأكبر عبدالله. وعرفت أنني لو خيرت لهربت بعيداً عن جنون حياة عائلة بن لادن. إلا أنني على غرار أمي وإخوتي الأصغر مني لم أمتلك من خيار سوى أن أتبع أبي أينما أدت بنا أعماله إليه.. أساء والدنا معاملتنا بوصفنا عبيده من الرجال الآليين.. وبنتيجة حياتنا الملتوية نشأت لدى كل منا مشكلات في شخصيته وتكوينه النفسي».

فراق

اجتمع شمل الأسرة للمرة الثالثة في جبل آل لادن الذي منحه إياه أحد الملالي الأفغان في تورا بورا في عام ،1996 صعق الجميع حينما رأوا المكان الجديد الذي سيعيشون فيه، وسرت همهمات سريّة بين الأم وابنها عمر، وعانى الكبار والصغار في ذلك المكان ذي المناخ القاسي، والعاري من سبل الحياة الكريمة، بينما ظل بن لادن سعيداً بذلك، خصوصاً في ظل التئام أسرته «الكونية الجهادية»، والاتباع والحواريين الذين كانوا ينضمون إلى معسكراته كل يوم.

ربما يستشعر القارئ أحياناً مبالغات في شهادات عمر بن لادن، وتصويره لذاته على أنه باحث عن السلم، نائياً قلباً وقالباً عن كل ما يدور حوله من أخبار تفجيرات، يفخخ بها أبوه مناطق شتى حول العالم، فعمر ـ حسب الكتاب ـ صاحب حنان فياض على إخوته أولاً، وعلى الحيوانات، على الخيل والكلاب والحمام، ويعاتب أمه حينما تجبره على قتل أفعى هاجمتها في كهف العائلة.

في عام 2000 نصح أحد أتباع الأب الابن بضرورة مغادرة أفغانستان، إذ إن أباه يجهز لحدث جلل، وأن كل قاطني المكان سيكونون في خطر، طلب عمر من أبيه في تلك الفترة مغادرة المكان متعللاً بأمه الحامل، وضرورة نقلها إلى مكان آمن، لاسيما بعد تدهور صحة الأم نجوى، نتيجة حملها المتكرر، وبالفعل يهرب عمر، وأمه حاملة أصغر بنيها معها. يستقر عمر لأشهر في سورية (بلد الأم نجوى)، ويلتمس من السفارة السعودية في دمشق الحصول على الجنسية التي جرّد منها أبوه، وبالفعل ينال ما يريد ويعود إلى المملكة، يعيش سعادة منقوصة، خصوصاً حينما يتذكر مشهد أخيه الصغير به، ورغبته في مغادرة المكان مع أمه، لكن لم يكن أحد ليستطيع عصيان أوامر أسامة بن لادن، ولا مخالفة فرماناته التي قالت إن الصغير (لادن) سيبقى معه، إلى أن تضع الأم وتعود.

يحفل الكتاب بتفاصيل كثيرة، روتها الأم والابن، ونسجتها بحرفية مؤلفة الكتاب جين ساسون، التي لم تكن مجرد مسجل وراوية للأحداث، إذ زوّدت الكتاب، رغم أنها لم تتدخل في الشهادات، على حد زعمها، بملاحق تصور تحركات بن لادن، وجوانب كانت خفية عن الأسرة ذاتها، فالأب الصموت كان كتوماً، وصاحب قرارات منفردة.

الأكثر مشاركة