«برتقالـة واحدة لفلسطين» استكشاف الوطــن تسللاً
بعين عاشق لجغرافيا وطن يمتد من النهر إلى البحر، وقلب مترع بالحزن على تاريخه، يرتحل الأديب تحسين يقين في كتابه «برتقالة واحدة لفلسطين.. من برتقال أريحا إلى برتقال يافا»، موثقاً مشاهداته عن منازل لها في القلوب منازل: زهرة المدائن القدس، رام الله، جنين، يافا، عكا، حيفا، وغيرها من المدن الفلسطينية.
ينتمي الكتاب إلى أدب الرحلات، والمفارقة هنا أن الرحلة ليست ارتيادا لآفاق قصية في بلاد ما وراء النهرين، أو مغامرة في مجاهل إفريقيا، أو استكشافا لغابات الأمازون، بل هي رحلة بين ربوع وطن كتب على أهله عبور بوابات وحواجز وأسلاك المحتل، بعد الحصول على هويات بألوان باهتة، وتصاريح سريعة الزوال، وإلا فالبديل المغامرة وسط أحراش وأشواك ودروب خفية ليداوا الأرواح برؤية قراهم ومدنهم، وليثبتوا أنهم أدرى بشعاب بلدهم، كما كان يصنع تحسين يقين في زياراته إلى القدس، وغيرها من المدن، والتي سجل تفاصيلها في «برتقالة واحدة لفلسطين»، منتقلا على مدى سنوات عشر (1997 ــ 2007) بطول بلاده وعرضها، متحدياً جبروت المغتصب الذي يريد تمزيق الجغرافيا، وتشويه التاريخ، كذلك: «لم أتعامل مع مدن فلسطين وقراها وريفها ومضاربها وغورها وسهولها وجبالها وتلالها من منظور التقسيمات البشعة للمكان، كنت أراه واحدا فردا غير مقطع الأعضاء رغم الحواجز العسكرية التي تفصل البلد الواحد عن نفسه حين عبرها جدار بشع ظالم عنصري حاقد، كلها كانت فلسطين كما نعرفها وكما كانت.. نحن أبناء المكان الأصليين الذين بقينا في الجبال ننحت كرمنا وزيتوننا، وفي الغور والصحراء نرعى مواشينا والجمال، وفي السواحل نزرع البرتقال، نحن هنا كنا وكان الزيتون والعنب والبرتقال ومواويل فلاح، وزغاريد امرأة، وأناشيد الرعاة، والناي الجميل».
«ابن بطوطة» فاز كتاب «برتقالة واحدة لفلسطين.. من أريحا إلى يافا» للمبدع الفلسطيني تحسين يقين، بجائزة ابن بطوطة للرحلة الصحافية عام ،2007 الجائزة التي يرعاها المثقف الإماراتي الشاعر محمد أحمد السويدي، عبر مشروعه المتميز «ارتياد الآفاق» الذي يعمل على تشجيع التأليف والبحث في أدب السفر والرحلات واليوميات. يشار إلى أن الكتاب صادر عن دار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي عام .2009
|
في «زهرة المدائن»
تستغرق زيارات تحسين يقين إلى مدينة القدس ثلث الكتاب الذي يقع في 360 صفحة، فالمؤلف مقدسي، ولد في قرية تبعد عن المدينة نحو 15 كيلومتراً، ولذا تكررت «تسللاته» إليها في مناسبات عدة رغم عوائق الاحتلال، والصعاب التي يضعها جنوده، فنجد الكاتب داخل القدس في رمضان، وفي يوم عرفة، وفي ذكرى الإسراء والمعراج، والمولد النبوي وغيرها، وفي كل مرة تكون حكاية الوصول إلى مدينته الأثيرة مختلفة، وكذلك المشاهدات، فالمؤلف كما هو معني بتصوير المكان، مهموم بناسه ومعاناتهم، بالعجائز والنسوة اللواتي يرين المرار، ويتحملن الكثير كيما يدخلن إلى القدس.
يتحول يقين إلى درويش عاشق لكل زاوية في المدينة المقدسة، يهيم أمام مآذن مساجدها وأعمدتها المهيبة، خصوصا في الأقصى وقبة الصخرة، يصف الأسبلة والأروقة والأسواق العتيقة ومدفع رمضان والنوافذ والزجاج الملون وأطياف النور التي يكون لها بريق خاص، يحنُ المؤلف وهو بعيد عن المدينة إلى كل شيء فيها، أكلاتها المميزة، حلوياتها وكعكها ومخللاتها وورق العنب الذي تبيعه الفلاحات: «للقدس المدينة الفلسطينية العريقة نكهة خاصة، وسحر دائم، تظل فيها في حالة اكتشاف وشوق ومحبة لهذا المكان. بمجرد دخولنا القدس وسيرنا على أرضها، ومشاهدة سورها وقبابها، خصوصاً قبة الصخرة المذهبة ينزاح همّ الطريق إليها، وصعوبة الدخول في ظل إجراءات الاحتلال».
تختلف مسارات السرد في الكتابة أحيانا لدى المؤلف حينما يتحدث عن القدس، يحيل الحنين فقرات كثيرة إلى قصائد نثرية، يهديها محب تلمع كلماته وتصفو حينما يصف محبوبته: «مازال صوتها يناديني، لم اسمع صوت الملائكة، لأنني لم أحس إلا بصوتها قد نفذ داخلي فجعلني أسير بدون رجلين، حتى ظننت نفسي أطير.. أهو سحر؟ ربما تحس بالقدسية ولا تراها، أي عشق هذا؟ روحها تناديني، شكلها، تلألؤها، ملمسها، أقع للمرة تلو المرة أسير إغرائها، يغريني الصوت والضوء والظل والحركة والخطوط والدوائر. استدارة تستدعي دوران العين ثم لا تنتهي. وجهها النضر رغم حزنه جميل».
ويسري ذلك العشق حتى والكاتب يسرد تاريخ القدس عبر العصور، ونكبتها الكبرى بعد مجيء الغزاة، ومخططات التهويد والأسرلة التي تسعى لطمس هويتها العربية المميزة. واللافت في القسم الخاص بالقدس في «برتقالة واحدة لفلسطين» أن الكتابة ليست مجرد إنشاء عادي، أو يوميات سائح يزور مكانا مقدسا يحفز على الإبداع، ويثير ربة الإلهام، بل هي يوميات مفعمة بالشجن، لشخص يسرد الحياة التي يعيشها، وذكرياته مع الأمكنة التي فتح عينه فيها على جماليات مهددة.
أمكنة أخرى
ثانية المدن التي حطت فيها رحال الكاتب الفلسطيني «إبداعياً» كانت رام التي لها هي الأخرى محل خاص في قلبه، إذ تعد الحب الأول بالنسبة إليه، والمكان الذي يختزن ذكريات كثيرة، فهي المدينة التي ضاع فيها وهو صغير، يوم أن أفلت يد والده، وهي المدينة التي تشتمل على سوق الحسبة، حيث النسوة يسطرن دوراً بطولياً في صمت، كما أنها المدينة التي استقر وعمل فيها في ما بعد.
لا يكتفي المؤلف عن الحديث عن واقع رام الله ـ وكذا الحال في غالبية الأمكنة التي زارها ـ وما آلت إليه، فالارتحال في الزمان حاضر هو الآخر، لذا يعود الكاتب إلى صفحات من الماضي، مرة عبر كتاب تاريخي، وثانية عن طريق تسجيل روايات مسنين عاشوا في فلسطين قبل النكبة، وثالثة عبر تأمل نص إبداعي يعد دلالة على ما جرى وما يجري في البلاد المحتلة.
ومن رام الله إلى جنين، المحافظة المعزولة نتيجة لبسالتها، وما سطرته من عقد نفسية لجنود المحتل، رغم المجازر التي راح ضحيتها شهداء كثر. يروي الكاتب أن تسلله إليها كان بأمر «الهوى»، إذ أحب فتاة من تلك المحافظة، وتزوجها «فهل يتوقع البشر أن أضبط إيقاع قلبي على إيقاع الأوامر العسكرية الاحتلالية فأمنعه من أن يهفو لإنسانة تقيم هناك في مكان ما من وطني».
يسلط تحسين يقين الضوء في أكثر من موضع من كتابه على المعاناة التي يلقاها الفلسطينيون في الحركة والتنقل من محل إلى آخر، والمسافات الصغيرة التي تتمدد بالأميال، نتيجة الالتفاف والسير في دروب خلفية، وسكك مجهولة غير ممهدة.
ينتقل قلم الكاتب إلى أريحا باحثاً عن «رائحة المكان وسر الماء المالح» في البحر الميت، في البقعة التي أغرت الإنسان القديم بإنشاء حضارة عظيمة بين ربوع «مدينة الشمس» أريحا. ويصل قطار «طريق الآلام» بالكاتب إلى يافا، مدينة أخرى ضائعة، بأطلال قصص، وشواهد قديمة، تروى للزائر عن عروبة المكان التي كانت. ومن جرح إلى جرح، من يافا إلى حيفا، وعكا التي كسر أهلها في نهاية القرن الثامن عشر غرور القائد الفرنسي نابليون بونابرت، وسطروا ملحمة قديمة. آخر محطتين في رحلات الكاتب كانتا طبرية وجبل الشيخ، والسير وسط معسكرات الجيش الغاصب، ويكون العزاء تذكر تاريخ ما كانت عليه تلك البقع، وعدم الاستسلام لما آلت إليه الحال فيها، فالذاكرة عصية على الاحتلال، حتى ولو احتلت الأمكنة.