«الفاجومـي».. الأصل يتمرّد على الصورة

الانطباع الأبرز الذي يخرج به مشاهد فيلم «الفاجومي» أن صنّاعه لم يفكروا طويلاً في إشكاليات الاقتراب دراميًا من حياة مبدع مشاغب، مازال يتمرد، ويتصعلك بين دروب وطن يعشقه، شاعر ينحاز إلى «الغلابة»، ويرفض أن يكون مداحا للسلاطين، فنان عصامي، شق طريقه بنفسه حتى صار «أبو النجوم»، خط سيرته، فسهّل الأمر ــ وصعّبه في الآن ذاته ــ على أي كاتب سيناريو، فنجم كما أنه شاعر بنكهة خاصة، فهو حكاء من طراز خاص، «فاجومي» يبوح ويسخر ويسعد ويبكي ويجرح، لا مجال عنده للف والدوران، صاحب «لسان طويل»، وقلم أطول، على نفسه أولاً، وعلى أقرب الناس إليه، أما على المتسلطين فـقصائده «زي الحسام يقطع مكان ما يمر».

وبدلاً من التزود بالتسالي والعصائر ينبغي على مشاهد الفيلم، اصطحاب مذكرات الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم معه، لتكون دليلاً يرشده إلى فجوات عمل افترض صنّاعه أن كل مشاهد هو بالضرورة ملمّ تماماً بتفاصيل حياة نجم، وأيضاً المذكرات ضرورية للمقارنة بين «الفاجومي» الحقيقي، ونسخته الباهتة على الشاشة التي تحولت بقدرة قادر إلى «أدهم نسر»، بينما صار رفيق دربه الشيخ إمام (1918 ــ 1995) الشيخ همام. أما الكاتبة صافيناز كاظم، التي تزوجها نجم لفترة، فطالها التحول هي الأخرى، فصارت مهيتاب، بينما نجت الابنة نوارة من ذلك، وحفظ لها الفيلم اسمها. صافيناز وصفت الفيلم المطروح حاليًا في دور العرض المصرية بأنه «فضيحة كاملة»، منتقدة في حوار أجرته معها أخيراً جريدة «أخبار الأدب» المصرية، صنّاع الفيلم الذين رأت أنهم لم ينصفوا نجم، ولم يفلحوا في التعامل مع حالة ثورية مثّلها نجم.

 

الأصل

سيرة «الفاجومي» ـ كما عرضتها المذكرات لا الفيلم ـ ثرية بالأحداث، فصّلها نجم في كتاب ظهر جزؤه الأول مطلع التسعينات من القرن الماضي، حياة مليئة بالشقاء والصعلكة والغناء والحب والسجن، حافلة بالكثير من الفصول الدرامية؛ يتم مبكر، وملجأ مظلم أكل 10 سنوات من العمر الغض، وتشرد للبحث عن عمل مستقر، وقصص حب تعيسة النهايات، ومسيرة ثنائي (نجم وإمام) شهدت أجمل الألحان، لكن جاء ختامها مقاماً حزيناً.

في المذكرات تعثر على وجه نجم الأصلي، ابن البلد، الفلاح الحقيقي، فنان يحكي عن محطات حياته بأريحية وسخرية شديدتين، منذ الميلاد في عام ،1929 بقرية صغيرة تابعة لمحافظة الشرقية في دلتا مصر، ميلاد يحتوي على قدر من السخرية، حيث خرج الوليد إلى الدنيا، وحرم أخته التوأم منها، بنت كانت مثل «فلقة القمر»، حسب رواية الأم، هانم مرسي نجم التي تزوجت الضابط عزت أفندي نجم، وأنجبت 17 ابنا، لم يعـش منـهم سوى القليل.

بدأت الدراما مبكراً في حياة نجم، إذ مات الوالد، وترك للأم خمسة من الصغار القصر، وثلاثة جنيهات، رحل الوالد الذي سمى ابنه على اسم ملك مصر حينها أحمد فؤاد، ولم يبلغ نجم بعد السادسة من العمر، اضطرت الأم إلى إخراج الأولاد من المدرسة، وأرسلت «الفاجومي» الصغير الشقي إلى ملجأ، ظل فيه عقداً كاملاً من الزمن، أبعده الملجأ عن المكان الذي كان يعشقه. تعرف نجم خلال تلك الفترة إلى رفيق اليتم عبدالحليم شبانة الذي صار فيما بعد الشهرة عبدالحليم حافظ، وكان الفاجومي يحاول مجاراة «العندليب» في الغناء. تمر مرحلة الملجأ، يخرج الفتى ليعمل بالأجرة في الحقول، وراعيا للبهائم في قريته الصغيرة، مرة لدى العم الثري، وثانية في أراض تابعة للملك، يعرف الحب للمرة الأولى، يجري لسانه بكلمات لا يدرك هل هي زجل أم شعر أم ترجمة لعشق أطلقته عيون إحدى الفلاحات اللواتي كن يعملن معه. يروي نجم بتفصيل تلك المرحلة المهمة في حياته ــ لم يأت على ذكرها الفيلم بالمرة سوى بلقطتين سريعتين ــ في قريته الصغيرة، حيث ترك عالم الأعمام أسياد البلد، وتعلم الأشعار من مواويل «الأنفار» في الغيطان، وكذلك من أغنيات أمه وحكاياتها. تضيق القرية بعد ذلك بالفتى، ينتقل إلى أكثر من مكان في مصر، عاملاً في معسكرات الإنجليز بمدن القناة، وبوسطجي في مصلحة البريد، وعاملاً في ورش النقل الميكانيكي. يدخل نجم السجن، ويخرج منه عام 1962 يشق طريقه إلى عالم الرفض والجهر بمعارضة كل الأنظمة القائمة، يحكي الشاعر عن يومياته مع الشيخ إمام عيسى، والمعاناة التي تحملاها سويًا، وتلفيق التهم التي ألحقها بهما النظام، وغيرها الكثير في سيرة تستحق عملا دراميا على قدر «الفاجومي».

صورة

الفيلم الذي يقوم ببطولته خالد الصاوي وصلاح عبدالله وجيهان فاضل وكندة علوش، ومهدى إلى شهداء ثورة 25 يناير، أراد مؤلفه ومخرجه عصام الشماع ضرب أكثر من عصفور بحجر، فالمقدمة أرادها عاكسة لشخصية مبدع وصعلوك ووطني في الوقت نفسه، لتكون توابل المقدمة شعرا وشعارات ومشهدا ساخنا ودخانا أزرق.

بدأ الشماع مع «الفاجومي» من ،1959 العام الذي شهد حدثاً اعتبره المؤلف محوريا قلب حياة أحمد فؤاد نجم، إذ تورط الشاعر في قضية تزوير دخل على إثرها السجن، وقبل دخول السجن يفتتح الفيلم بمشهد لأدهم نسر (خالد الصاوي) يلقي إحدى قصائده على زملائه في العمل، يتلوه مشهد ثانٍ يعتلي فيه الشاعر جسد إحدى الحبيبات، وينساق الشاعر بسهولة غير مبرّرة إلى التزوير، فيحصل على أموال مقابل الاستيلاء على قماش مخصص للفقراء، وبيعه في السوق السوداء، بعد ذلك يندم ـ بسهولة أيضًا ـ على ما صنع، متأسفاً على الحال التي انحدر إليها، وهو العامل البطل الذي كان قائداً للمحتجين ضد المحتل الانجليزي في مدينة على شط قناة السويس.

في ربع الساعة الأولى من الفيلم، يستمع مشاهد «الفاجومي» إلى نحو خمس قصائد، في مشاهد متشابهة، سجناء مدخنون يتحلقون حول الشاعر، أو يجلسون أمامه ليشدو الملهم بقصائده، ويصل الصدى إلى مأمور السجن، فيخصص بعض الأمسيات للشاعر، ويقدم إبداعاته في مسابقة يفوز بها الشاعر السجين الذي يرى ديوانه الأول النور مع رؤيته هو ذاته للحرية. بدا الفيلم مهموماً بالكلمة أكثر من الصورة، والتركيز على الشاعر أكثر من الإنسان، رغم أن المشاهد بحاجة إلى غير ذلك، فأشعار أحمد فؤاد نجم ليست بحاجة إلى بوق سينمائي، فالقصائد تملأ صفحات الدواوين منذ زمن، وصوت نجم يصدح في تسجيلات كثيرة عبر فضاء الإنترنت وشاشات الفضائيات كذلك.

يخرج الشاعر، الذي لم يوضح الفيلم كيف تبلورت موهبته، ولا من أي وقت أحب الحرف، إلى الحرية، حاملاً ديوانه الأول، ليلتقي برفيق دربه الشيخ همام (صلاح عبدالله)، وليبدأ الثنائي الظاهرة رحلتهما معا، كلمة نسر (نجم)، تتلاقى مع نغم عود الشيخ همام (إمام). ولإثبات الفتوة والصعلكة من جديد، يكون تعارف نسر وهمام في مشهد خاص، إذ يخلص الشاعر من سيكون صديقه من تسلط صاحبة البيت (جيهان فاضل) مهددة همام بالطرد، نتيجة تراكم إيجار البيت، يتدخل الشاعر الشهم دافعا الإيجار، كاسراً عين المرأة وقلبها معا، وليكمل معها طريقاً بدأه في المشهد الثاني من الفيلم.

تتوالى الأحداث، يلحن همام قصائد نسر، ويكون الحدث المحوري في الخامس من يونيه ،1967 والنكسة التي زلزلت الجميع، وخطت للثنائي نسر وهمام طريقاً جديداً، أغان تهاجم المسؤولين عن عار الهزيمة، وفي الآن ذاته ترفع شعارات المقاومة، ورفض الاستسلام، لتجد تلك الأغنيات صدى لها في جامعات مصر، ولتنطلق شهرة الثنائي من حارة قديمة (خوش قدم) في الغورية بالقاهرة، إلى أرجاء مصر والوطن العربي كذلك. أما النهاية فتكون على وقع أصداء ثورة 25 يناير في مصر، ليعبر الفيلم زمناً، ويشدو نسر بـ«مصر يا امه يا بهية».

الأكثر مشاركة