سمير قسيمي. أرشيفية

«فـي عـشـق امـرأة عاقر».. الوطن الإجبـــاري وطـقـــوس التخلّي

هل يستعذب «الوطن الإجباري» ممارسة طقوس التخلي عن بنيه، فيتحول إلى كائن بلا قلب، يقسو على ضعفائه، ويسلب الفقراء كل شيء؟ وهل يصير ذلك الوطن أيضا معادلا لأم تتخلى عن صبيها الوحيد ـ حتى ولو كان «ابن حرام» ـ بين جنبات عاصمة قاسية؟ أسئلة قد تكون إجاباتها حاضرة في رواية «في عشق امرأة عاقر» للكاتب الجزائري سمير قسيمي الذي ينكأ جراحات عدة، ويرسم في روايته عالما كابوسيا يصعب على كثيرين تخيله، لما يحويه من مأساوية مستمدة من واقع حياتي، يراه قسيمي أغرب من الخيال، وسابقاً له أحياناً.

تغوص الرواية في هموم مهمشين، وتجأر بشكايات طبقات شعبية مسحوقة، تلج مناطق حساسة، سياسيا واجتماعيا، دونما هيبة، تصرح بلا مواربة، بما قد يراه البعض «عورات مجتمعية» ينبغي ألا يتطرق إليها من باب «الستر»، أو ربما الخوف من مجابهة الآخر. تدخل «في عشق امرأة عاقر» في صميم قضايا شائكة، تعرض شخصيات سوية، وأخرى منحرفة.. طيبة، وشريرة.. أناس يتاجرون يكل شيء حتى بالوطن، وأشخاص يحلمون بالكفاف ليس أكثر، وقضاة يحاكمون الضحية ويتركون الجاني، وغيرهم كثير في فضاء الرواية.

إضاءة

ولد الكاتب الجزائري سمير قسيمي في الجزائر العاصمة عام .1974 حصل على بكالوريوس في الحقوق وتخرّج محامياً. عمل محرراً ثقافياً في عدد من المجلات والجرائد. من رواياته «تصريح بالضياع» التي فازت بجائزة الهاشمي سعيداني للرواية، و«يوم رائع للموت» التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية، و«هلابيل».

في الرواية يحلو لكثيرين ممارسة طقوس التخلي، فالأب تخلى عن ولده، وتبرأ من الأم التي تخلت هي الثانية عن طفلها، وتركته يواجه مصيرا مجهولا. وهناك «المخرج الكبير» والحكومة والقضاة والقائمون على شأن البلاد، من تخلوا عن هموم الشعب، وسلبوه كل شيء، وحولوا أفراده إلى «مسوخ مشوهة» على الأقل حياتيا. مع ذلك لا يعدم قارئ الرواية نماذج تضبط «رمانة الواقع»، وتجعله صالحاً للعيش.

حسان

تحفل «في عشق امرأة عاقر» الصادرة حديثا عن منشورات الاختلاف في العاصمة الجزائر في 215 صفحة، تحفل بالعديد من الشخصيات، يأتي في مقدمتها حسان ربيعي الذي يأخذ الحيز الأكبر من الرواية، مسترجعاً ماضيه، وعارضا حاضره، تتداخل الأحداث وتتشابك من حوله، لكنها في النهاية تصب في مأساته الكبرى، شكلا ومضمونا، فحسان لم يرزق من الحسن شيئا، بل كانت ملامحه أقرب إلى مسخ: «بطوله الفارع (متران و10 سنتيمترات)، وتيبس جسده النحيل، وغور عينيه الواسعتين بلا معنى، وبوجهه العظمي الطويل المنتهي بذقن هلالي، يشبه كلبا سلوقياً سيئ الأكل.. مقاس قدمه 48».

مأساة حسان نسجت خيوطها الأولى حتى قبل مولده، إذ رفض من اغتصب الأم الاعتراف بفعلته، وتركها تواجه مصيرها، بينما نسب الولد إلى جده بأمر من المحكمة بناء على رغبة الجد. لم تصالح الدنيا حسانا، حتى وهو صبي، بل ازدادت قساوتها مبكرا، ففي العاشرة تعرض الطفل لاعتداء من حارس المدرسة، ووقف في ساحة محكمة مستجوباً من قبل قاضٍ. وبعدها بقليل، تركته أمه، وغابت في تلك المرحلة الصعبة من حياة الصغير. على تلك الوتيرة المأساوية توالت فصول حياة حسان، في المراهقة والشباب، سيما في ظل وعيه الشديد بما يدور حوله، واشتراكه في تظاهرات 1988 في الجزائر، وما آلت إليه الأمور في البلاد، ودخولها في أتون عنف زلزل كثيرين، إذ تحولت المطالبة بالحرية إلى دروب أخرى، ودخل الوطن نفقا مظلما، وكانت حصة حسان بعد التظاهرات «الصفع والركل والضرب على القفا».

تتعمق مأساة حسان، تستدعي أحداث 17 نوفمبر 2010 أحداثا مشابهة، يتذكر بطل الحكاية آمال الناس، ورغبتهم في حرية بسيطة، تتلخص في حياة كريمة بلا طوابير، تنتهي بعض أحداث الليلة (تدور الرواية فعلياً في نحو ساعة ونصف) بحسان محبوساً في قطار مظلم غارق في مياه الأمطار، وممنوع من الانطلاق، خصوصاً بعد اشتعال تظاهرات عمت العاصمة، كان كل هم حسان في الحياة هو النجاة من تلك العتمة التي حكم عليه بالعيش فيها، حتى من قبل أن يولد.

بوح وإسقاطات

تمتلأ الرواية بالإسقاطات السياسية المباشرة التي يعلو فيها صوت الراوي متحولا إلى صراخ مبرر حيناً: «كانت جميعها (الجرائد) تتحدث عن وطن رائع مزدهر، عن شعب لا يقسم إلا برأس رئيسه، عن رئيس لا همّ له إلا إسعاد شعبه، جميعها تتحدث عن نسب النمو المرتفعة، وعن البطالة التي لم تعد إلا ذكرى، وعن المشروعات العظيمة التي ستجعل البلاد في المقدمة». بينما يصير ذلك الصوت بوحا شفيفا في أحايين أخرى «... الوهم، ذلك الذي عاشه هو وغيره من مواطني الوطن الإجباري، وهم الحب الذي يشعرون به نحو امرأة لا تعبأ بهم، لا تعطيهم بقدر ما تسلبهم، حتى غدوا دون أن يدركوا وطأة الزمن شعبا مسلوبا من كل شيء، ومع ذلك يختبرون صبرهم على ذلتهم كل عام، على أمل أن تحبل المرأة ذات مرة، وتنجب ككل نساء العالم العشق الذي وضعوه فيها، لكنها في كل مرة يقربونها تخذلهم ولا تنجب». رغم كل تلك الكوابيس والمآسي، تبرز في افتتاحية الرواية طاقة نور، استقاها الكاتب من مقولة للمناضلة الجزائرية جميلة بوحريد: «البلاد التي أنجبت بن مهيدي وكريم بلقاسم وغيرهما ليست عاقراً، وقادرة على إنجاب رجال آخرين عظماء عظمة الشهداء».

رحلة عودة

تدور رواية «في عشق امرأة عاقر» حول حسان ربيعي، الأربعيني الذي يتأهب لرحلة العودة من العاصمة الجزائر إلى مدينة في الضواحي، بعد عمل يوم شاق في البريد المركزي بالعاصمة، عبر قطار الخامسة والنصف، وأكثر من وسيلة مواصلة تستغرق رحلة عودة حسان ساعتين ونصف الساعة، شأنه شأن كثيرين من أبناء القرى والضواحي الذي يقطعون تلك المسافات يوميا، من العاصمة وإليها. يتأخر حسان عن موعد قطاره المعهود، فيلحق بآخر، لكن القطار يتعطل، بسبب المطر الكثيف. ينقطع التيار الكهربائي، وفي تلك العتمة تثور شجون حسان، يتذكر ظلاما آخر جعله يودع طفولته مبكرا، حينما حبس في قبو المدرسة، وبقي منسياً من أمه ومن مديرة المدرسة ليومين، وتعرض للاعتداء من قبل حارس المدرسة. يصادف حسان في القطار محامية تطوعت للدفاع عنه، وطالبت بإنزال أشد العقوبة بالحارس ومديرة المدرسة، لكن مرافعاتها لا تفلح، إذ يسجن الحارس لعامين فحسب، وتبرأ ساحة المديرة.

بسبب ملامحه رضي حسان بالزواج من سيدة جربت قبله رجلين، وطلقت بسبب أنها عاقر، وجد حسان في ذلك العيب تحديدا ميزة، إذ لم يكن يرغب بولد يرث بعض ملامحه وسماته الشكلية. رغم ذلك حسان قارئ مطلع، يحمل في ذهابه وإيابه جرائد وكتباً تؤنس وحدته في القطارات، وكانت رفيقته خلال عودته باليوم الموعود رواية «رجال بأربع أصابع» للكاتب اليوغسلافي ميودراك بولاتوفيتش، والتي اقتبس منها سمير قسيمي بعض المقاطع، وحاول أن يقيم تناصاً بين بولاتوفيتش وحسان، ومشاعر الاغتراب التي تجمع بينهما، خصوصا أن الأول عانى الكثير، وجرّب الغربة والاغتراب. يقول بولاتوفيتش «ياوطني اللعنة. يا بغيا من دون قلب لا تشبع. يا تفاحة حمراء كبيرة وناضجة: دع الدود يخرج منك، وابق شامخا تسمو وتكبر وتصبح أجمل تفاحة في هذا الكون». تهجر الأم حسانا وهو في الثانية عشرة من عمره، وتتركه برفقة زوجها، تتحول الأم بعد ذلك إلى شحاذة على أحد أرصفة العاصمة، والمفارقة أن حسانا كان يمر عليها يوميا ذهابا وإيابا، لا يلتفت إليها، ولا تسأله هي الأخرى شيئا، وفي يوم الأحداث يمنحها حسان مبلغا كبيرا، ويكمل مشواره نحو القطار، لكن تحدث المفاجأة، وتكون «الليلة السوداء» في القطار.

في النهاية ينجو حسان، بعد نوبة صرع تعرض لها في ظلمة القطار، والمفارقة أنه عقب خروجه من المحطة، يسمع صوت طلقات رصاص، فيجري ليصطدم بالمرأة «الشحاتة» التي لا يعرف أنها أمه، ومن يفترض أنه الأب والذي تنصل من الاعتراف بأبوته لحسان، يكون على بعد خطوات من الأم والابن، يبحث عن سبيل للهروب من طلقات الرصاص هو الثالث.

الأكثر مشاركة