«لوليتا في طهــــران».. عن حرية خـرجـت مــن إيــــران ولم تعد
شكل عام ،1979 تاريخاً محورياً، ومرحلة تفصل بين عهدين، بالنسبة للإيرانيين، ولكثيرين من سكان المنطقة، وكذا لصاحبة سيرة «أن تقرأ لوليتا في طهران» الكاتبة الإيرانية آذر نفيسي، أستاذة الأدب التي خرجت عن السياق، وتمسكت بحلمها، رافضة التدجين، وأعين الرقباء، وحكم الملالي، حتى لو كلفها ذلك الفصل من الجامعة، والتضييق عليها في مناشط الحياة المختلفة، والاضطرار في نهاية المطاف إلى الهرب من وطن لم يعد صالحا للعيش.
تركز نفيسي على تفاصيل صغيرة، تعتبرها أوكسجين الحياة، لا ترى خطرا على الثورة ــ كما يعتقد حرّاسها ــ من خصلة شعر بعثرتها الريح من تحت حجاب، أو ضحكة نسوية رنّ صداها في حديقة عامة، أو إقدام سيدة على أكل الآيس كريم بحرية في شارع يتسع للجميع، وغيرها من حقوق المرأة التي انتهكت بقوانين ذكورية سلطوية.
تبدو آذر نفيسي في سيرتها التي صدرت نسختها العربية عام ،2009 من ترجمة ريم قيس كبة، دار الجمل، صاحبة وجوه عدة، فتطل حينا كشهرزاد فارسية، قاصة من طراز فريد، تأخذ القارئ إلى عوالم مختلفة عبر سردها المنساب بسلاسة آسرة، بينما تظهر حيناً آخر في إهاب الناقدة التي تحلل نصوصاً وروايات ترى فيها خلاصا من الواقع الكئيب، إذ تختصر شخوصها مآسي أناس يعيشون في طهران، وليس آخراً أن تستعير نفيسي خيالات وقواميس الشعراء، لتشف لغتها، وتتحول بعض فقرات سيرتها إلى غنائيات تعيسة أحيانا.
ربما يرى البعض في سيرة نفيسي بعض المبالغة، صحبتها توابل فنية، كلوازم للكتابة الأدبية والبوح، لكن تبقى السيرة شهادة امرأة، تركت نصيبها من شمس وطنها وزهوره ونقوشه وجباله وكل جمالياته، تركت ذلك، مجبرة بفعل فاعل، لم يحترم حقوقها، ودفعها للسير في درب لم تتخيره لنفسها، وحين حاولت أن تعلن رأيها لم يسمح لها بذلك، فلا صوت يعلو على صوت السجان، ولا محل للبلابل في قفص محرّم فيه التغريد من الأصل.
فاكهة محرّمة
شاركت نفيسي، مثل الملايين غيرها، في الثورة الإيرانية، لكن قدر الثورات أن تتعهدها بالتضحيات شعوب، ويجني ثمارها أفراد، إذ ذكرت نفيسي في سيرتها الذاتية أن الثورة الإيرانية اختطفتها جماعات وميليشيات متشددة، أرادت فرض إرادتها على الجميع، فصادرت الأحلام، وحجرت على الحرية الفردية التي صارت بمثابة فاكهة محرمة، وجعلت البعض يترحم على أيام الشاه، رغم ما كان فيه من سوءات وفساد.
تقول الكاتبة في سيرتها التي ترجمت إلى أكثر من 32 لغة «كم كنت أشعر بالعجز كلما استمعت إلى تفاصيل المعاناة التي لا تنتهي، والتي كان يتعرض إليها طلبتي كل يوم. فإذا ما أسرعت طالبة لتلحق بالدرس عاقبوها على الهرولة، وإذا ضحكت عاقبوها على الضحك في الممرات، وأيضا كانوا يعاقبونها إذا ما ضبطت وهي تتحدث مع أحد من الجنس الآخر». وقائمة العقوبات المفروضة على المرأة طويلة، فقد تقع بسبب خصلة شعر تمردت على غطاء الرأس، ونفرت متحدية حراس الأخلاق والفضيلة، أو بسبب ظفر طال وتزين بطلاء أحمر، قد يثير شهوة ما، أو بسبب جورب وردي تجرأ وتكشف من تحت الجادور الأسود للعيان. وقد يعتبر البعض تلك العقوبات «الصغيرة» ومصادرة الحريات، رفاهية، في الوقت الذي عوقب فيه كثير من معارضي النظام بعد الثورة بالإعدام والتعذيب والسجن، وغيرها من المآسي التي فصّلت بعضها صاحبة «أن تقرأ لوليتا في طهران».
حرمت نفيسي من التدريس في جامعة طهران، فكونت لنفسها جامعة خاصة، تخيرت طالباتها بنفسها، دعتهن إلى بيتها، ودشنت فصلا دراسيا لهن، مساقاته كانت القراءات الحرة، وروايات من الشرق والغرب، تنتقيها الاستاذة المفصولة، وطالباتها اللواتي صرن يلتقين صباحات كل خميس، واتسعت النقاشات والتحليلات، لتنتقل كل طالبة من التحدث عن الشخصيات الروائية إلى همومها هي. تعرفت نفيسي إلى جوانب جديدة في حياة «بناتها»، تقربت إليهن أكثر، تعاطفت مع معاناتهن، في المنزل والشارع والعمل.
اكتشفت نفيسي أن من بين طالباتها من تعرضت للسجن والقهر والتعذيب عقب الثورة، وأن من بينهن من هي بحاجة إلى علاجات نفسية طويلة، بعد أن شوه الحلم الجميل الذي كان في خيالهن: «إن أسوأ الجرائم التي يمكن أن ترتكبها عقول الأنظمة الشمولية هي أن تجعل مواطنيها وبضمنها ضحاياها شركاء في جرائمها. فحينما ترقص مع جلادك، وتشارك بنفسك في حكم الإعدام على نفسك، فإن ذلك الفعل هو أقصى درجات الوحشية».
لعبة الحرب
تطنب نفيسي في ذكر تفاصيل سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية، وتكشف معاناة الطرف الآخر، تحصي عدد القذائف والصواريخ التي تسقط على عاصمتها الحبيبة، والظلمة التي فرضت على أهلها لسنوات خلال الثمانينات من القرن الماضي، تصوّر قوافل الصبية المقتادين إلى ساحات الحرب والشهادة، موعودين بالفردوس والحور العين، حاملين مفاتيح الجنة في أعناقهم، والتي منحهم إياها «الإمام». تروي الكاتبة الإيرانية التي تقيم منذ نهاية التسعينات في أميركا تروي مشاهد مواكب العزاء، وأناشيد الحماس للمعركة التي تصدح في كل شارع، وتراتيل البكائيات، ووصايا الشهداء التي كانت تطالع الشعب ليل نهار عبر وسائل الإعلام، تحكي عن التلفزيون المراقب، الذي صودرت أفلامه، ولا تعرض فيه سوى وثائقيات كئيبة عن الحربين العالميتين، ومعاناة الشعوب، كيلا يتملل «أحفاد الحسين»، ويتعظوا بسواهم من الذي اضطرتهم الحروب إلى أكل بعضهم بعضاً.
تسهب نفيسي في يوميات الحرب، ملقية باللائمة على قائدي الشعبين، الخميني وصدام حسين، معتبرة أن الأمر كان أشبه بلعبة طفلين يتحديان بعضهما البعض، دونما حساب للعواقب ولا للضحايا، واحد أراد أن يفتح كربلاء، ويرث مرقد الإمام، فيما الثاني عازم على خوض اللعبة إلى منتهاها، أو نهاية شعبين بالأحرى.
سكتت الحرب فجأة كما بدأت فجأة ـ على حد قول نفيسي ـ وعادت ريمة لعادتها القديمة، تخلص حراس الثورة من أعداء الخارج، وتفرغوا لأعداء الداخل، يساريين وعلمانيين وليبراليين ومتغربين ومخالفين في الآراء والمعتقدات، اشتدت وطأة الرقباء من جديد، بعد أن خفت إلى حد ما بسبب الحرب، وقعت مآس جديدة، وصودرت حريات بالجملة، أغلقت مكتبات، ومنعت مؤلفات غير موائمة لمبادئ أصحاب الثورة الإسلامية، غربلت الكتب من مفردات «محرمة»، حتى لو كانت روايات مترجمة ودواوين شعر، صارت هناك كلمات سيئة السمعة، تجر الكثير من الأزمات، ككلمة النبيذ وكل ما له صلة بـ«الغرب المتفسخ أخلاقياً».
تحفل السيرة التي اقتربت من الـ600 صفحة، وتصدرت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً عالمياً حين صدورها، تحفل بالكثير من الهموم الخاصة والعامة، بحياة نفيسي ونظيراتها من الإيرانيات، بأحلامهن ورؤيتهن لما تم في وطنهن، وتناقش قضايا شائكة بجرأة قد ترضي قراء، وتغضب آخرين.