الروائية التشيلية تعاود الحكي لابنتها الراحــــــــــــــلة باولا في «حصيلة الأيام»

إيزابيل الليندي تواصل « خيانة الأسرار »

إيزابيل الأم ودعت جسد ابنتها ولم تودع روحها. إي.بي.أيه

حين ودّعت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي جسد ابنتها، قررت ألا تودع الروح، فأخذت تحكي للابنة، الغائبة الحاضرة، الكثير من الذكريات، عن ماضي الأم وحاضرها، عن يوميات المنفى، وكيف غادرت بلادها، بدأت إيزابيل الحكي في كتابها «باولا» الذي سطرته مباشرة عقب موت ابنتها ذات الثمانية وعشرين ربيعاً، وحافظت الروائية الشهيرة على عادتها القديمة، فاستحضرت الابنة الراحلة وأطلعتها على ما استجد في الحياة من أحداث، بعد 13 عاماً من الغياب، وذلك في كتاب ثان بعنوان «حصيلة الأيام».

لأنه «لا وجود لألم أكبر من موت ابن»، حاولت إيزابيل مداواة ذلك الألم، بالكتابة طويلاً، فبعد وفاة ابنتها باولا عام 1992 اعتكفت المبدعة التشيلية مع أحزانها وأوراقها، مسطرة قصة مرض الابنة، تلك التجربة القاسية التي أخرجت كتابا صادقا وحارا، فياضا بمشاعر مبدعة عاينت انسلال روح فتاتها الغالية ثانية بثانية، بعد غيبوبة طويلة استمرت شهورا، تنقلت فيه الأم مع ابنتها بين مستشفيات في مدريد وسان فرانسيسكو، وأخيراً في منزل الأسرة الذي تحول إلى مصحة، ومكاناً استراحت فيه حين وصلت إليه روح الشابة، وانقطعت فيه صلتها بالعالم.

بوح خالص

إضاءة

ولدت إيزابيل الليندي في الثاني من أغسطس عام ،1942 عاشت بين عدد من البلدان، منها تشيلي، وبوليفيا، ولبنان، وفنزويلا، نتيجة عمل والدها سفيراً، وكذلك زوج والدتها بين انفصالها عن أبيها. في عام 1973 وقع انقلاب دموي ضد عمها سلفادور الليندي في تشيلي، نفيت بعده إيزابيل إلى فنزويلا، وعملت صحافية، خلال تلك المرحلة. أولى روايات إيزابيل التي تصنف ضمن تيار الواقعية السحرية كانت بعنوان «بيت الأرواح»، وصدرت عام ،1982 وتحولت إلى فيلم سينمائي، بعدها توالى نتاج الكاتبة، ومن بين أعمالها «عن الحب والظلال»، «إيفا لونا»، «آفروديت»، «مملكة التنين الذهبي»، «زورو»، «مدينة الوحوش».

ينتمي «حصيلة الأيام»، كما سابقه «باولا» إلى أدب المذكرات، والبوح التام، إلى حد المكاشفة والاعتراف، حيث لا مكان لسر، ولا يوجد ما يستحق الستر في كهوف النفس. تصرّح إيزابيل الليندي بالكثير من أسرار المقربين ولا تلمح، تعترف في طقس كتابي خالص، ربما بينه وبين الأقلام العربية عقود طويلة، تعترف بميولها الغريبة وكوابيسها، بتسلطها، ولحظات ضعفها وقوتها، بمشاعرها ساعات الفرح وأوقات الجرح، ومكاسبها في الحياة وخساراتها. تسهب صاحبة «بيت الأرواح» في كتاب مذكراتها الثاني في وصف تفاصيل ومنمنمات من حياتها، تتحدث عن غيرتها من كنتها، وحالها كحماة تضع أنفها في شؤون أسرة ابنها، تكشف عن إجرائها عملية تجميل كي تحارب الشيخوخة، تتحدث عن عقدتها من قصر قامتها، تلك التي جعلتها تنتعل أحذية بكعوب عالية. تحكي المبدعة التشيلية عن طقوسها الإبداعية، عن بداياتها، وأين كانت تجد بذور رواياتها، ومن أين استمدت بعض شخوص أعمالها التي حظيت بشهرة كبيرة حول العالم.

تقول إيزابيل «أكثر ما يخيفني في الشيخوخة ليس الوحدة، وإنما التبعية، لا أريد أن أزعج ابني وأحفادي في شيخوختي، وإن لم يكن سيئاً قضاء سنواتي الأخيرة إلى جانبهم. أعددت قائمة بما أحتاج إليه عند بلوغي الثمانين: صحة، موارد مادية، أسرة، كلبة، تاريخ. الأمران الأولان يتيحان لي أن أقرر كيف وأين أعيش. والثالث والرابع يرافقانني. والتاريخ يبقيني صامتة ومشغولة، دون أن أزعج أحدا. أشد ما يخيفنا أنا وويلي (زوجها الثاني) هو فقدان القدرة الذهنية، ويكون على نيكو (ابنها)، أو غرباء، وهذا أسوأ، أن يقرروا عنا. إنني أفكر فيك، يا ابنتي (باولا الراحلة)، وقد ظللت شهورا تحت رحمة أناس غير معروفين قبل أن نتمكن من نقلك إلى كاليفورنيا. كم من المرات أساء معاملتك أحد الأطباء، أو إحدى الممرضات، أو مستخدم، دون أن أعرف ذلك، كم من المرات تمنيت الموت بصمت وسريعا خلال تلك السنة».

 

حضور الأحبة

اللافت في الاقتباس السابق هو حضور أكثر من شغلوا بال الكاتبة وصفحاتها، أحبتها المقربون، فباولا موجودة رغم مرور زمن على وفاتها، إذ هي المعنية الأولى بالحكايات، على الأقل من وجهة نظر أمها التي ربما لم تعترف سوى بغياب جزئي للابنة، إذ تظل تخاطبها بالساعات الطويلة، تشهدها على مسرات العائلة وأحزانها، تتنزه الأم في غابة نثر فيها رماد الابنة الراحلة، تتناجى الروحان في حوارات ممتدة عبر صفحات الكتاب. ويحضر كذلك الزوج الثاني «توأم الروح» الذي عثرت عليه إيزابيل بعد انفصالها عن زوجها الأول، ويلي الذي يشاركها حلو الحياة ومرها خلال الفترة الأخيرة، وعايش معها مأساة باولا، كما تقاسمت الكاتبة معه مأساة مماثلة، لكن في تلك المرة تبادل المحبان الأدوار، إذ غابت بشكل غريب ابنة ويلي، بعد سنوات من الإدمان على المخدرات ودخول المصحات، وتركت رضيعة وحيدة في هذه الحياة، وأبا حائرا يبحث عن ابنته في أقسام الشرطة، والمستشفيات، ومشارح حفظ الجثث، وفي النهاية يلجأ الأب إلى العرافات اللواتي يخبرنه أن جنيفر ابنته قتلت ورميت في أحد الأنهار. ثالث الشخوص الحاضرين المؤثرين هو الابن نيكولا، الذي أخذ نصيبا كبيرا من الحكايات، هو وأبناؤه الثلاثة، وزوجتان، سابقة وحالية، كانت لكل واحدة منهما قصة ذات شجون، فالزوجة الأولى اكتشفت في لحظة ما، وفجأة بعد تزمت، أنها «مثلية»، فهجرت أسرة كانت سعيدة، وأقامت مع إحدى الصديقات بعد تحول غريب، حاولت الكاتبة أن تفسر أسبابها، ولم تجد في النهاية سوى التسليم بما اختارته سيليا زوجة الابن السابقة ومساعدتها لفترة طويلة من الزمن. الزوجة الجديدة التي وجد فيها ابن الكاتبة عوضاً، لم تخل حياتها من منغصات، إذ بعد رعايتها لأبناء الزوج لفترة، حنت هي الأخرى إلى طفل، وظلت تحاول طويلا مع عمليات الإخصاب، والأم البديلة، دونما فائدة، سقطت في أزمة نفسية، وفقدت الكثير من وزنها وألقها، ولكنها عادت بعد فترة إلى سابق عهدها، معتبرة أن ما تبحث عنه متحقق بالفعل في أبناء زوجها الثلاثة الذين يعدونها بالفعل أمّاً حقيقية.

تجارب القبيلة

يتميز كتاب «حصيلة الأيام» الذي ترجمه المبدع صالح علماني عام 2008 (دار المدى في 350 صفحة)، ببوح شفيف، وكمّ كبير من المشاعر الإنسانية، تسردها بمهارة كاتبة كبيرة، لا تبحث عن تعاطف مجاني، بل تضع تجربتها، وتجارب كثيرين من المقربين، مباشرة بين يدي القارئ، حتى لو اتهمت بخيانة الأسرار، تنتقل بعفوية بين الألم الخاص والهم العام، تهاجم الساسة الأميركيين، والدكتاتوريين في مكان، وتنتقل للحديث عن أزمة وقعت بينها وبين زوجها، وأوصلتهما إلى عتبة الطلاق، لولا لجوئهما إلى معالج نفسي، تبث تباريحها الخاصة إلى باولا: ذلك الجرح الذي يأبى أن يندمل، وينزف حنينا وشوقا إلى الحبيبة الراحلة.

ورغم ذلك الجو الحزين إلى حد بعيد لا تخلو صفحات «حصيلة الأيام» من السخرية والفكاهة، والروح المرحة التي تميز أبناء تشيلي، إذ تلجأ إيزابيل إلى ذلك، لاسيما حينما تحاول جلد ظهر أحد بسياط كلماتها، في المحيطين الخاص والعام، ولعل من أبرز نماذج ذلك ما عبرت عنه الكاتبة حينما تحدثت عن أزمة كلينتون ـ مونيكا.

وتعترف إيزابيل الليندي بأنها لم تتخلص من عاداتها اللاتينية في منفاها الأميركي، ولأنها جربت الفرقة، وعانت مراراتها، حاولت أن تكون جامعة للأحبة، وملمة شمل العائلة القبيلة، رغم الجو الغربي الذي لم يسمح بذلك في أحيان كثيرة. وقعت السيدة التشيلية في بعض المآزق بسبب تلك الشفقة غير المعهودة في مجتمع تغلب الفردية على طباع أفراده.

تويتر