رواية الجزائري بشير مفتي المرشّحة لـ « البــــــــوكر العربية »
«دميــة النـــار».. لا أحد عصيّ على «السقوط»
ما أسهل «السقوط والانهيار» البشري، بحيث يصير المناضلون سماسرة مبادئ، والثوار نهَازي فرص، وباحثين بعد الثورة عن ثروة، على الأقل كما تصوّر رواية «دمية النار» للكاتب الجزائري بشير مفتي، إذ إن شخوصا عدة في العمل تسير حياتهم في خطوط متعرجة، يبدأون سيرتهم أطهارا، ويختمونها طغاة وآكلي لحوم بشر، ودراكولات تتمنى أن يطول ليل الأوطان كي يمتصوا دماء الشعوب أكثر.
تختصر حكاية بطل الرواية (رضا شاوش) خيبات كثيرين، يستحيل إلى رمز يعبر عن المتحولين، فشاوش انقلب من المحب الرومانسي الهائم إلى مغتصب، ومن المتمرد على السلطة إلى سادن لها، وقاتل في نهاية المطاف، ودمية نار بيد غيره، تحرق بأمر من يمسك بخيوطها.
تعود «دمية النار» الصادرة عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، ومنشورات الاختلاف، تعود إلى فترة الثمانينات «الكارثية» في الجزائر، وتتخذ من مرارات تلك الحقبة نقطة انطلاق، لتكشف عن أزمات جيلين: جيل الاستقلال، وما بعده، وتثير أسئلة كثيرة أبرزها: ما الذي أوصل البلاد إلى تلك «الحرب»؟ ومن المسؤول عنها؟ وهل كان بالفعل هناك شبكة خفية تدير اللعبة من وراء ستار، تتكسب بأنهار الدم، وتتاجر في أرواح أبناء الوطن؟
أعمال
من أعمال الكاتب الجزائري بشير مفتي روايات: * بخور السراب. * أشجار القيامة. * خرائط لشهوة الليل. * أرخبيل الذباب. |
يقول راوي «دمية النار»: «وبينما بدأت المناوشات تحدث كنت أراهم يضحكون متسلين بما يدور على ساحة الواقع، لقد كان كل شيء يحدث وفق ما رسموه، ولكل واحد من بيادقهم دوره، والشيخ أسامة يصيح في أكبر المساجد أن الجهاد قادم فيزداد ضحكهم، وفتنتهم بأنفسهم وقدرتهم على تسيير الأمور نحو ما يريدون، حتى إذا ما نشبت الحرب القاسية، والتي دامت عشر سنوات استقر الأمر واستتب لهم، لقد صار كل شيء بيدهم، ولسان حالهم لا يكف عن الترديد: لن ينهض بعد اليوم أحد.. لقد هزموا أقوى موجة غضب تاريخية قام بها أولئك المتدينون البؤساء الذين حلموا بالجنة والحوريات، ولم يأخذوا من جهادهم إلا القهر والذل والعذاب الشديد».
طرف خفي
نحو ذلك التفسير استراحت الرواية التي تتنافس على جائزة البوكر العربية للرواية، طرف خفي يدبر أفراده الأحوال، وينسجون المؤامرات، يخسر الجميع، ويربحون هم، لكن من هم: «عصابة، جماعة، جهاز، سلطة متوارية، رجال أعمال»، ربما مزيج من كل هؤلاء، إذ إن التأويلات مفتوحة، وليفكر كل قارئ في من يتحمل مسؤولية الانهيار. لكن الكاتب بالغ أحيانا في تصوير ذلك الطرف الخفي، نزع نحو الخيال السينمائي البوليسي أحيانا، بشكل بعيد عن الجو الروائي، إذ أطل أعضاء تلك العصابة، بأجساد سمينة، ونظارات سوداء، لهم مطاعمهم ومشاربهم الخاصة وحراسهم الصموتون، وغيرها من الملامح التي تحيل إلى جو السينما البوليسية على عكس مسارات الرواية في أحيان كثيرة.
وقريب من ذلك الجو السينمائي أن تتمخض حادثة اغتصاب الحبيبة عن ولد، لا يعرف به الأب (المغتصب) إلا بعد تسعة عشر عاما، وأن يدخل الكاتب الحبيبة القديمة في اللعبة من جديد، بعد أن يرميها زوجها الأصلي الذي لا ينجب، بعد وضعها الولد، لتتحول بعد ذلك تلك المرأة إلى خيط في أطراف اللعبة، وتنضم من صارت «عاهرة» إلى التنظيم، والجهاز الجهنمي للمراقبة وللإيقاع بالآخرين.
قد يستوقف القارئ ذلك التحول الفجائي في حياة بطل الرواية رضا شاوش، والسقوط السريع دونما مقدمات أو أعراض، إذ انتقل من فئة المعارضة إلى خانة الموالاة والسدنة للنظام بشكل غريب، ولم يكن الفشل في الحب، ولا حتى الاغتراب والقلق كافية لتبرير ذلك التحول الكلي؟ ففي لحظة ما ينقلب شاوش من كاره للنظام إلى متعاون معه، ينفذ ما يطلب منه، وفي لحظة أخرى يطرق «السعد» بابه، وينضم إلى ذلك الجهاز، ليصير واحدا من أبرز أفراده بعدما كان من اشد معارضيه.
ومن اللافت في «دمية النار» التي تقع في 165 صفحة ما لجأ إليه مبدعها من حيلة استهلالية، إذ يحضر بشير مفتي، أو شبيه له اسما وعملا، في البداية، التي كانت بعنوان «الروائي»، ليقابل بطل الحكاية، وليتسلم منه في ما بعد مخطوطا يسرد فيه الأخير حكايته، ويكشف كنز أسراره، أو بالأحرى شهادته على عصره، وما فيه من تحولات وهموم. ويبدو أن حيلة المخطوطات التي يعثر عليها المؤلفون، أو ترسل إليهم باتت حيلة يستسهلها كثير من الروائيين في المرحلة الأخيرة.
مخطوط
يكشف رضا شاوش في «مخطوطه» إلى الكاتب، عن مراحل حياته، التي بدأت في حي شعبي، ومن أبرز المؤثرين في نشأة شاوش الأب الذي يعمل سجانا، ويقسو على الأم، ويذيقها من القهر ألوانا، يسجل وعي الطفل شاوش مشاهد من عنف الأب، وضربه بلا رحمة للأم، يسمع الصغير الناس وهم يصفون والده بأنه «يعيش من تعذيب إخوانه»، وينال الصبي نصيبا من تلك القسوة، والنعت بالجبن، بعدما سأله ابوه عن الذي قاله عنه ذلك، لكن شاوش يصمت شفقة على من قالوا ذلك، وخوفا عليهم من بطش أبيه.
تظل إشكالية العلاقة بين الابن والاب متواصلة حتى بعد أن مرض الأخير، وصار رهين المنزل والمرض النفسي، يحاول الصبي الذي أصبح شابا أن يغفر للأب ولا يستطيع، حتى بعد النهاية الماساوية لوالده، إذ كان الانتحار عنوانا ختاميا لحياة الأب، وبقيت تلك الذكريات تطارد الابن، إلى أن تكشفت أمور أخرى في الحكاية، فمرض الأب النفسي كان ادعاءً، ومحاولة للهروب من الماضي الأليم، والنهاية لم تكن انتحاراً، بل قتل من قبل «العصابة» التي استشعرت حيلة الأب. يفصل الراوي كذلك أثر معلمته الأولى في نفسه، إذ كانت نمطا خاصا، حببت إليه القراءة، وأهدته كتبا خاصة، واستمرت علاقته بها حتى بعد طردها من المدرسة، بدعوى أنها تحض الصغار على الانفصال عن أسرهم، بينما الواقع أن المدير دبر لها تلك التهم بعدما فشل في الإيقاع بها، ونهرته بعد محاولات تحرش عدة.
يركز شاوش أيضا في قصته على الحب الأول، وربما الأخير، وتعلقه وهو صغير بفتاة تكبره بسنوات، حاول أن يصل إليها، لكنه فوجئ بها تقابل أحد الشباب، ما دفعه إلى الانتقام منها، فوشى بها إلى أخيها الذي قام بضربها أمام شاوش، ولم تنسَ الحبيبة (رانية) ذلك، وظلت محتفظة بحبها للشاب الذي تخيره قلبها إلى أن تزوجته، وهربت معه، وعاشا فترة في حي شديد الفقر.
ظلت رانية نقطة ضعف شاوش، وجرحه الذي لا يندمل، عرف مكان إقامتها بعد هروبها، وحاول الانتقام منها عبر اغتصابها. كانت حادثة الاغتصاب محورية في حياة شاوش، انقلب بعدها من متمرد على كل ما يمت إلى السلطة، حتى الأبوية منها، إلى شخص قابل للانهيار، ومتعاون جزئي مع عملاء للنظام، والجهاز الخفي الذي يدير شؤون الدولة، ويتحكم بمقدرات شعبها، ويأخذ نصيبًا من مكاسب التجار ورجال الأعمال، يودع شاوش كل مبادئه القديمة، ويرتدي قناعا جديدا يناسب المرحلة، يتوغل في ذلك الجهاز، يصير ركنا رئيسا فيه، ينفذ ما يطلب منه، حتى وصل الأمر إلى قتله الشخص الذي جنده، بناء على «أوامر عليا» صدرت إليه، وكانت بمثابة اختبار لقدراته، وترقية له في سلم العصابة الحاكمة. وسط ذلك لا يتخلى المثقف القديم عن أسئلته، تؤرقه همومه الوجودية، يصرح دوما بالعبثية والقدرية والجبرية، وهل البشر مخيرون أم مسيرون، يحاول أن يرضي نفسه بالبحث عن مبررات للسقوط، بالتهويم في دروب فلسفية وقلق وجودي عاصف.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news