رواية حوراء النداوي تنافس في « البوكــــر العربية »
حكايات العراقيين الدنماركيين « تحت سماء كوبنهاغن »
هل يرضى المولودون في المنفى بفكرة الوطن البديل، ويتخلون عن إرثهم من الحنين، ومفاتيح العودة، وأرق الحلم بالرجوع إلى بلاد الأجداد؟ وهل تصير العواصم التي بلا شموس مستقرات لهم، بعد أن ظنوا أنها محطات مؤقتة، وأمكنة للانتظار، ليس أكثر، ليستحيل الوطن الأصلي حكايات مشوشة في ذاكرة المسنين المنفيين، أو صوراً على حائط في الغربة؟ تلك الجراحات وغيرها تنكأها المبدعة العراقية حوراء النداوي، في روايتها «تحت سماء كوبنهاغن» التي تتناول هموم عراقيين من الدنمارك، أو دنماركيين من العراق، إذ تدخل عوالم جيل، ولد في عاصمة اسكندنافية، ينعم بـ«زبدة الرفاهية الدنماركية»، المنزوعة من دسم بلاد الرافدين.
ترسم «تحت سماء كوبنهاغن» الصادرة عن دار الساقي اللبنانية عالما خاصا للمهاجرين إلى الدنمارك، خصوصا للجالية العراقية الكبيرة في بلد كان قبلة لأرتال من العراقيين منذ فترة التسعينات من القرن الماضي. تكشف الرواية عن أحوال «الدنماركيين العراقيين الجدد»، تلج مساحة غير مطروقة، تروي أغلبية الحكاية فتاة ولدت في كوبنهاغن، تمثل جيلا جديدا ربما لم يستنطقه أحد في السرد، ولم ينصت إلى صوته أحد، إذ انشغلت أعمال كثيرة بهموم المهاجرين الآباء، لا الأبناء، ولم تلتفت إلى تجارب الجيل الجديد في المنفى، وطنه الواقعي الذي لم يرَ غيره، ولم يعرف سواه.
ذكريات
إهداءغادرت حوراء النداوي العراق مع الأسرة وهي في سن السادسة لأسباب سياسية. نشأت في الدنمارك وتعلمت اللغة العربية في المنزل. وتقيم حاليا في لندن. أهدت حوراء روايتها «تحت سماء كوبنهاغن» إلى أمها وأبيها قائلة: «إلى أمي.. المرأة التي حين التحقت في الصف الأول الابتدائي في بغداد لم تكن قد نطقت العربية بعد.. هي نفسها المرأة التي عشقت تلك اللغة، وجاهدت لتعليمي إياها فكانت مدرستي الوحيدة.. أمي، أخيرا أهدي إليك ما لن يعادل طلقة.. وإليه أبي.. بطلي الأوحد.. واستقامة ظهري». |
تتوزع الرواية التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر العربية» بين مكانين تفصل بينهما قارات، مكان واقعي تجري فيه معظم الأحداث، وهو العاصمة كوبنهاغن، وآخر مستعاد بالتذكر والتخيل، تهفو إليه أرواح المنفيين، وتتنسم روائح حكاياته بحلوها ومرها، الوطن الأصلي العراق. يقول بطل الرواية (رافد) الذي هرب من بلاد الرافدين وأقام في الدنمارك: «لي مع النهرين ذكريات يثقب لها قلبي.. الفرات الذي كنت أمر به في صغري بين الحين والحين، فألقي عليه نظرة لا مبالية، فأجده يرد علي بنسمة طيبة. حقا طيب هو الفرات، خجول الانسياب، وربما لخذلانه الكربلائي القديم شأن في ذلك. لا أدري، لكن طيبته وخجله حفزاني عليه، فصرت حين أمر به أنا وصحبي، بعد أن كبرت، أصر على إلقاء التحية عليه بأن أشجع الصحب على رحلة نهرية فيه.. نتابع من بعدها طريقنا. هذا النهر المنكسر يثيرني مثل امرأة ماضيها في العشق عتيق، لكنها تظهر حياء مغرياً. أما دجلة فصلتي به أعمق بحكم القرب منه. نسماته الندية في شهر مارس.. والشموع التي يتركها البغداديون عليه إما شاكرين وإما راغبين، والرذاذ الذي يلتصق بوجهي ويتبخر قبل أن تتاح لي الفرصة للاستمتاع برطوبته، بينما أنا أصر على الانحناء مراقبا الخطوط التي يرسمها القارب على الماء. والحفيف الذي تصدره الأعشاب النابتة على جانبيه، والذي حين اكتشفته للمرة الأولى في طفولتي المبكرة ظننته صوت أنفاس جدي».
وإذا كان ذلك حال البطل الذي قضى طفولته، وصدرًا من شبابه في العراق، فشأن بطلة الرواية هدى مغاير، إذ ارتبطت بحيز مختلف، المكان الذي ولدت فيه، العاصمة كوبنهاغن، والتي تصفها كثيرا بالجميلة والفريدة والحبيبة، وليس معنى ذلك أنها تعيش بذاكرة خالية من الحنين إلى العراق، بل تصبو إلى كل ما هو شرقي، وعندما زارت حيزا قريبا من بلدها الأم في طفولتها، ظلت محتفظة بتلك الذكرى طويلا، واحتفظت في مكان أمين بداخلها بروائح أحياء دمشق، وحاراتها القديمة وأسواقها العتيقة، فهدى تجمع بين عشق مكانين، وحتى حين تشبه صوت حبيبها فإنها تستعير صورا من المدينة التي تسكنها، والعراق الذي يسكن وجدانها تقول: «كان في صوته (حبيبها رافد) طعم العبادة حين تجيء في الوقت الذي أحتاج إليها بشدة.. صوت عميق فيه رنة ارتطام تمور العراق بالأرض الخشنة.. رقيق، فيه نغمة أجراس كنيسة مدينتنا (كوبنهاغن).. فيه مزيج من جلجلة وسكون أربكني.. فيه نفسه الذي حفزني.. فيه أيامه التي رافقته طويلا، تاركة بصمة من هلاكها عليه».
تضيء الرواية منطقة مجهولة لدى كثيرين، تفتح بابا خياليا للدخول إلى بيوت أولئك المهاجرين، تنتقدهم وتصور صراعاتهم، قيمهم الجديدة وعاداتهم القديمة، نقاط الضعف والقوة، مشاعرهم المختلطة، أناس طيبون، وآخرون متعصبون، أشخاص لم يغيرهم المنفى، وآخرون صاروا مسوخا، لا عراقيين ولا دنماركيين. تصور الرواية صراعات الجيل الجديد بعين فتاة تسرد سيرتها وتوزعها بين لغتين ومكانين وزمانين وقيم مجتمعين، فتاة ترى مأساة وطنها الأصلي في اغتراب الآلاف.
لغة أنيقة
تستوقف القارئ في «تحت سماء كوبنهاغن» التي تقع في 392 صفحة من القطع المتوسط اللغة الأنيقة، التي شكلت مظهرا لافتا في الرواية، وكأنها كانت نوعا من التمسك بالهوية العربية المتسرّبة من اليد، رغم أن حوراء لجأت إلى حيلة فنية خاصة لترقية اللغة، والحفاظ على صورها الجميلة، فبطلة الحكاية هدى تكتب أولا بالدنماركية، اللغة التي تجيدها، وتحفظ أشعارها وقصصها، ثم تدفع بما سطرته من فصول إلى «حبيبها» رافد، ليترجمها وينقلها إلى العربية التي هو ربيبها، وتشرّبها منذ نشأته في العراق إلى أن خرج منها بعد انتهائه من المرحلة الثانوية.
والملمح الأبرز في لغة الرواية هو طزاجتها، وعدم كلاسيكيتها المفرطة، فالمؤلفة حوراء النداوي تستفيد في تشكيل كثير من الصور بمفردات عصرها، فتبدو اللغة كأنها مزيج من الأصالة والمعاصرة، لغة ليست محنطة، أو جافة خارجة من بطون القاموس، لغة ذات نكهة مميزة، تتجاسر الكاتبة فتشتق تراكيب وتنحت ألفاظا وتعابير تحمل بصمتها الخاصة.
وكثيرا ما تشف اللغة في «تحت سماء كوبنهاغن»، فيتحول السرد، وكذا الحوار اللافت الذي لم تهمله الكاتبة، إلى صفحات من الرومانسية والعذوبة، متناسبة مع أحوال طفلة ومراهقة وشابة وعاشقة شديدة الرهافة والحساسية، كما تلائم اللغة الشفيفة أيضا قصة حب هدى العجيبة لرافد، ذلك الحبيب الآتي من تحت سماء العراق، وظلال نخيلها، والذي أحبته الراوية بينها وبين نفسها لزمن، من دون أن تبوح لذلك الذي رأته ولم يرها، راقبته كثيرا، ولكنها لم تجرؤ على البوح لذلك الحبيب (مرسال الوطن) الذي لا يشعر بها، وحتى عندما صرحت، كان رافد قد ارتبط بأخرى، تفاعل مع الفتاة الرقيقة، وظلت مسيطرة عليه حينا، لكنه في النهاية حسم أمره، واعتبر كل تلك المشاعر حكاية حب مبتورة، لا ينبغي أن تقلب مسار حياته، ولتنتظر هدى حبا آخر «تحت سماء كوبنهاغن»، وربما أيضا عن وطن بديل.
تقول هدى عن إحدى المرات التي كانت ترقب فيها حبيبها «لم تكن رؤيته مجرد مواقف رسخت في ذاكرتي، لأعتصر النظرات المتبقية منها اليوم وأرطب بها حياتي الجافة، بل أظنها قد تتابعت، وما ذلك إلا لأني كنت بحاجة كبيرة إلى أن تساعدني هذه الرؤى على التأكد من وجوده الحقيقي في الدنيا، وأنه ليس مجرد حلم أو خرافة أو حتى هذيان صباح شتوي. فهو رجل ذو حضور شرقي مميز، وحبور شديد أشد من أن تضمه مدينة أوروبية وهو بشرقيته العارمة يبدو عبئا على كوبنهاغن بأسرها.. هو رعشة قلبي الأولى.. واحمرار خدي لمجرد الذكرى. ويدهشني الآن أن كل ما كان بي نحوه لم يولد ردة فعل منه.. ألم تتسرب مني أشواق كافية لتلتصق به؟».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news