« رحلة خير الديــن » تحاسب زمانين ووعداً مراوغاً

سفر عبر قرون ومخطوطات، وفقر مشوه للبشر، ووعد مراوغ بالثراء، ونظرة قلقة تسخر من الماضي والحاضر، ونوبات جنون لا ترى إلا أسوأ ما في الإنسان.. عناوين عريضة قد تشكل مفاتيح لسيرة بطل «رحلة خيرالدين بن زرد العجيبة»، رواية الكاتب الفلسطيني إبراهيم زعرور، والتي تنافس على جائزة البوكر العربية للرواية، بعد وصولها إلى القائمة الطويلة للجائزة.

عجيبة «الرحلة»، وأعجب منها بطلها خيرالدين، الشخصية المركبة، ذلك المغترب الذي يعيش مع تداعياته وخيالاته وأساطيره الخاصة أكثر مما يتعايش مع واقعه المرير، يرتحل طويلا عبر الزمان والمكان، ينفصل عن الزوجة والأبناء والشقة الكئيبة التي يقطنها، ويغيب في عوالم أخرى، وحتى حين تأتيه البشرى بالخلاص من الفقر لا يشعر بسعادة كاملة، تبقى منغصاته كما هي، وتلح عليه هموم عامة وخاصة، تتداخل يوميات الجوع والفقر والتعب الشخصي، وصورة الأب الكفيف الذي لم يجد ثمن القطرة التي تحفظ نور العينين، تتداخل كل تلك الصور والحكايات مع أنباء الحرب على العراق والغزو الأميركي، وصور التواطؤ الإعلامي مع الواقع الجديد، ومحاولة ترسيخه في قلوب الناس قبل عيونهم.

قصص وروايات

ولد إبراهيم زعرور في قرية عانين بقضاء جنين في فلسطين عام .1939 حصل على بكالوريوس لغة عربية وشهادة دار المعلمين. عمل في مجال التدريس في الأردن والكويت، وكتب العديد من المقالات السياسية والثقافية.

بدأ زعرور مسيرته مع الكلمة بالشعر، ثم انصرف لكتابة القصة القصيرة، وكتب ما يزيد على 70 قصة. صدر له «آخر الطيور السوداء»، «شير أنا قتلتك»، «مكان ضيق شديد الضيق»، و«مشاهدات عائد من هناك»، و«الشارع الذي رحل».

وللكاتب الفلسطيني المقيم في عمان أكثر من عمل روائي، من أهمها «رعاة الريح» التي يعتبرها زعرور من أبرز أعماله، وكانت الأولى بلفت الأنظار إليها.

تطغى شخصية خير الدين على ما سواها في الرواية، تكاد البطولة أن تكون مطلقة في يدها، لا تترك الفرصة لسواها، كل الأضواء مسلطة عليها، أو بالأحرى بيدها، تسرد سيرتها، وسير سواها، تأتي على حكايات الآخرين سريعا، وتعلق على أخبارهم، واللافت أنها تلتقط ما يناسب قلقها وهواجسها، مشاهد القتل في التاريخ، والرؤوس المفصولة عن الأجساد، والجد الذي وقف أملاكه لجواري السلطان، وترك أحفاده يعانون العوز والحاجة، وحينما يتحدث عن أولاده، يصفهم كأنهم من نسل آخرين، ينظر إلى ضجيجهم وملابسهم المهلهلة ومعاركهم الصغيرة، ولا شيء سوى ذلك، وقد يبدو الأمر غريبا، حتى وإن وضع الراوي ذلك في سياق معاناته وحالته النفسية المرضية. مستفز ذلك المرتحل المغترب، يدخل صوان فرح فيعد الموجودين، ويرى أقبح ما فيهم، أفراد الصف الأول: فلان مريض، وعلان مدرس مهموم بالدروس الخصوصية، وثالث بدين بحاجبين ثخينين، ورابع بطين مرسل اللحية، وخامس متأنق مستأجر، وهكذا تتوالى النماذج التي لا يتعاطف معها السارد، ويبرز جانبه المظلم النابع من اضطرابات نفسه الغريبة.

في عالمين بعيدين تسير رواية «رحلة خيرالدين» الصادرة عن دار فضاءات في العاصمة الأردنية عمان، عالم تاريخي مسترجع، تمتزج فيه الانتصارات «القليلة» بالانكسارات، وآخر معاصر ليس فيه سوى الفقر، والوعود غير المكتملة بالثراء، والحلم بتغيير الأحوال، من قبل خيرالدين، ذلك الحفيد الذي يبحث عن إثبات لنسبه، وتاريخ سلالته، كي يستطيع أخذ نصيبه في إرث أجداده، بعدما تنكر له «أولاد العم»، واعتبروه دخيلاً على العائلة، بعد أن كان هو صاحب النصيب الأكبر من الميراث لو أعطي كل ذي حق حقه كما ينبغي، لا كما خطط ابناء العم بالتعاون مع «سام» الشخص النافذ الرأي والمشورة في الحكاية.

قد يحمّل قارئ ما تلك الرموز ما تحتمله وما لا تحتمله، فيرى في الأرض الموقوفة وطنا ضائعا، ويعتبر خيرالدين المحروم من الإرث، شعبا سلبت منه ارضه، حتى وإن نفت الحكاية عن العم سام الزئبقي، وكذلك عن أولاد العم.

تبدأ «رحلة خيرالدين بن زرد العجيبة» التي تقع في 213 صفحة، بمشهد عبثي ساخر، وتختتم كذلك بمشهد أكثر عبثية وسخرية، وكأن الراوي تعمد أن يغلف حكايته بذلك، ليشير إلى أن ما بين المشهدين من أحداث وتنقلات زمانية ومكانية هو الآخر ليس ببعيد عن جو العبث والسخرية والكوميديا السوداء.

وللتفصيل، تستهل الأحداث بصورة خيرالدين، الزوج الضاجّ بروائح طهو الزوجة، وشجارات الأبناء الستة، وصياح الجيران، يتسلم خيرالدين رسالة من مندوب وزارة الأوقاف، تبشره بإعادة الأرض والساحة التي وهبها جده إلى الورثة، وبحكم أن خيرالدين هو الأقرب إلى ذلك الجد، فيحق له نصف التركة، يترك خيرالدين الرسالة بعد قراءتها وهو غير مصدق، ويذهب إلى الحمام، ويخرج ليجد الزوجة قد مزقت الرسالة لتحمل بها «طنجرة الملوخية».

ليس ببعيد عن ذلك الجو الساخر مشهد ختام الرواية، فبعد سفر خيرالدين إلى اسطنبول للبحث في اضابير المكتبات التركية ومخطوطات السلطنة العثمانية عما يثبت صحة نسبه، وأحقيته بالميراث الذي انفرد به أبناء العمومة، بعد سقوط اسم أحد الجدود من اسم خيرالدين، بعد رحلة تمخضت عن الوصول إلى الحقيقة، بل وجمع كتاب به شهادات من تاريخ السلالة والمنطقة كذلك، في خلال العودة، يصادف البطل امرأة أرمل، يستريح في دارها، وينام فترة ويصحو ليجدها تطهو له دجاجة ليأكلها في ليلة «دخلته»، ولكن المرأة كانت توقد النار بأوراق المخطوط والكتاب الذي جمعه خيرالدين في رحلته الطويلة، واللافت أن الرجل لم يحزن في مشهد البداية، ولا في المشهد الختامي كذلك: «كنت أستمع إليها منهمكا أتمرغ في لذة خيال يغالبه النعاس الذي سرعان ما طواني فغفوت في الظل.. وعندما صحوت قبيل الغروب، تفقدت الخرج الذي كنت قد ركنته الى جانبي، حيث كنت احتفظ بالمخطوط، فوجدتها تطعمه للنار تحت قدرتها ورقة ورقة. كانت تقرفص الى جانب النار محمرة الخدين. تتدلى حول النار كدالية دانية العناقيد، وتحرك طبيخاً شهي القتار، منتشر الرائحة، وتحرق تاريخ السلالة. ماذا تطبخين؟ سألت بلا مبالاة. دجاجة.. ردت دون أن تلتفت، وهي تقلب بالمغرفة. ثم أضافت وهي تمسح جبينها: عادتنا التي ورثناها عن سلاطيننا وجداتنا في هذه الأنحاء أن نطعم العريس دجاجة في ليلة دخلته.. نعم ما تفعلون، قلت بتراخٍ. اعذرني لأني استخدمت بعض أوراقك في اشعال النار. لا بأس عليك فهي عديمة القيمة على أية حال. فالتفتت وابتسمت بمكر. وكانت نعومة زغب العصافير، وهسيس سفا القمح، قد عاد للدبيب تحت جلدي كموجة من ثمار ناضجة مشتهاة. وكانت مخيلتي ممتلئة عن آخرها. وبعد منتصف الليل بقليل أفقت على نفسي مثلما فعل أنكيدو في ملحمة جلجامش فوجدتني ممداً على ظهري عاريا فوق التربة الحمراء تحف بي ثمار القثة الغضة، وتتراقص أشعة القمر الفضية على قطرات الندى السماوي المراق كالنجوم. وكان التراب الأحمر من حولنا مسحوقاً وممهداً كأن فيلاً ضخماً قد ظل يتمرغ عليه طوال الليل».

الأكثر مشاركة